الديوان

أرض القاش: كرم الطبيعة.. وكاريزما التاريخ..

حبيت عشانك كسلا خليت دياري عشانها .. واخترت أرض التاكا الشاربة من ريحانها..

كسلا : رشان أوشي
استلقت المدينة التاريخية على منحة ربانية فياضة الكرم، من الطبيعة الساحرة، حيث تقبع في قلب هضبة صغيرة، وتحيط بها جبال ذات سمة مقدسة لدى أهلها، حيث منح جبل توتيل جهة جغرافية شاءت الأقدار أن يدفن أسفلها “الحسن أب جلابية”، وهو محل اعتقاد كل سكان “كسلا”، وما جاورها من مناطق شرق السودان، وغالباً ما يأتيه المريدون، المتدينون على الطريقة “الختمية”، التي يعتبر مؤسسها وعرابها، بينما دفنت بالقرب منه في جهة مخصصة لنساء الأسرة الميرغنية “ستي فاطمة”، كما يطلق عليها المريدون، فوقهم جميعا تدفق نبع ماء على مقربة من سفح جبل توتيل، اكتسب قدسية أضفتها عليه كل هذه الصُدف التاريخية لتلك الجهة من المدينة التي تعتبر (مزاراً)
مزيج الحضر والريف:
وتتكئ “كسلا”، على معالم حضرية، أكملت تلك اللوحة الزاهية لها، رغم مظاهر الفقر، وضنك العيش الذي يعانيه قطاع كبير من السكان، مسرح تاجوج في وسط المدينة والمُسمى شخصية تاريخية، امتداداً إلى المنتجع السياحي في الضفة الغربية لنهر القاش الموسمي، مروراً بإستادات رياضية جعلت الناس أمام خيارات متعددة للترفيه.
يعيش الناس على سجيتهم الثقافية الشعبية، فلم تؤثر المدنية، ولا الحضر الذي يجمع شتى الثقافات والمكونات الإثنية المختلفة على نمط حياتهم البيجاوي الأصيل، فالزي الشعبي هو السائد هناك، تجد نساء “الرشايدة”، بغطاء الوجه المزركش، والثياب زاهية الألوان، ورجالهم بجلابيبهم الملونة الفاقعة، وأحذيتهم المميزة، ونساء البجا، بـ(الفردة) البيجاوية، يرتدونها بطريقة معينة، ونساؤهم بـ(السواكنية)، مع بعض القبائل ذات الأصول الشمالية (الشايقية، المناصير) هؤلاء يعملون في الزراعة البستانية ويقطنون جزئين من المدينة يطلق عليها “السواقي” الشمالية والجنوبية، حيث أضفوا على المدينة البجاوية ألقاً شمالياً زاهياً.
توتيل ابن السحاب:
كلما ورد ذكر “كسلا”، تبادر لذهن الناس حكايا جبل “توتيل”، المثيرة والمشوقة، مما دفع بأهل المدينة للاحتفاء به أيما احتفاء، ومن ثم أقاموا عليه المقاهي المصممة على طراز فلكلوري محلي، خضبت بيوت حي “الختمية” المتاخم له بألوان مميزة، هي ذاتها التي كانت تتطلى بها المنازل في أزمان سحيقة، يصنع قهوة “توتيل”، رجال فقط، يرتدون الزي الشعبي لـ”البجا”، (جلابية)، وسروال (سربادوق) و(السواكنية)، عرف به “الأدروبات”، يحبون أن يحتسوا القهوة الشرقاوية الممزوجة بكم هائل من “الجنزبيل” الحراق، وتعتبر جزءاً أصيلاً من ثقافتهم المحلية نقلوها إلى بقية بقاع البلاد.
كل زائر لجبل “توتيل” أول مرة، يصر أهل المنطقة على تقديم ماء النبع الذي يتدفق من منتصف الجبل، وأقاموا عليه بئراً مازالت بذات البذخ الأول، يعتقدون أن ذلك الماء المقدس يحبب الناس في بلادهم ويعاودون زيارتها مرة أخرى، ولابد أيضاً من التسوق على جنبات المقاهي، في محال تجارية على الهواء الطلق، تتخصص في عرض أواني القهوة الفخارية المزركشة.
“أبو هاشم”.. حلال المشبوكة:
ضريح السيد “الحسن” أب جلابية، وأبناؤه من ورثوا عنه القداسة “أحمد”، “عثمان”، “حسن”، “أحمد”، وبعضاً من حفيداته وبنات السيد “جعفر”، يعتبر مزاراً مهماً لأهل “كسلا”، وما جاورها، يمتزج معهم حواريو ومريدو الطريقة الختمية في كل بقاع السودان، وقيل إن أتباعهم في اريتريا، ومصر أيضاً يزورونه متكبدين مشقة سفر طويل، الضريح الأثري الذي أنشئ عام (1845م)، وصمم على شكل مخروط يمتد لعشرين متراً أو أكثر رأسياً، تتدلى من سقفه المفتوحة سلاسل، تقطنها أسراب الحمام، وبحسب إفادات راعي الضريح، فإن المكان قد تعرض لعملية تدمير إبان الثورة المهدية والقائد البجاوي “عثمان دقنة”، وأعيد ترميمه فيما بعد.
يعتبر زوار الضريح من المريدين والمعتقدين، بعضهم يتعلم حفظ القرآن، ويتلو “البرزنجي”، و”المولد العثماني” يومياً، وآخرون أصحاب حاجات دنيوية، ينشدون “أب جلابية”، أن يساعدهم في طلبها من الله سبحانه وتعالى، ونساء عجزن عن الإنجاب، وأخريات يحلمن بزوج صالح، يعلقن خيوطاً من ثيابهن على سور الضريح، والبعض يكتب اسمه على قماش يكسوه.
معاناة:
تعاني “كسلا” من قلة النظافة، حيث تتكدس في الأسواق، الشوارع، وأمام البيوت، أكوام النفايات التي يبدو واضحاً أنها لم تبارح من مكانها لأيام، إضافة لتخطيط معظم أحيائها بشكل غير متسق مع العلوم الهندسية، برر معتمد كسلا “معتصم محمد عثمان”، لتدني الخدمات الذي تعيشه المحلية، بأنهم بذلوا جهداً كبيراً لتصل المدينة لهذه المرحلة التي نراها فوضوية، حيث كانت الأوضاع اسوأ مما هي عليه الآن، إضافة لتهالك شبكة الطرق الداخلية، بعضها كاد يختفي تماماً فيما خلا أثر طفيف للأسفلت، وفي ذات الوقت تعاني معظم أحيائها من أخطاء هندسية متعلقة بتخطيط المدن، فقد شيدت المنازل في مجرى السيول والأنهار الموسمية، والمصارف، حيث تعرضت قرية مكرام شمال المدينة، لنكبة جعلت كثير من الأسر في العراء، حيث فاق “خور أمري”، وفتك بالبيوت المشيدة من مواد بناء محلية، حتى قررت وزارة التخطيط العمراني على لسان وزيرها “محمد سعيد”، إخلاء المنطقة، وترحيل السكان، إلى حي طرفي، شيدته حكومة الولاية مكون من (غرفة، مطبخ، منافع)، لحوالي (3200) أسرة من جملة (5000)، البقية سيتم ترميم منازلهم التي انهارت جزئياً.
مازالت “كسلا” الإنسان والطبيعة بذات الألق الذي الهم “كجراي”، “اسحاق الحلنقي”، “توفيق صالح جبريل”، و”عبد الوهاب هلاوي” لكتابة أروع القصائد الشعرية المغناة، رغم معاناة إنسانها من تدني الخدمات، وانتشار الأوبئة والأمراض، إلا أنها مازالت تلك المدينة الساحرة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية