أنفاس أكتوبر
يقول المفكر الإسلامي “محمد المختار الشنقيطي”،إن الشعوب التي تذوقت يوماً طعم الحرية وعاشت كريمة بلا قهر أو كبت تظل تتوق لتلك الحرية، وتحدث نفسها بعودتها مهما طال الزمن وتبدلت الأوضاع الاقتصادية، لأن الحرية قيمة سامية ومرفأ للإنسانية بديلاً لدولة القهر والظلم.. والمفكر “الشنقيطي” يرسم بريشته الرائعة صورة قاتمة لواقع العالم الإسلامي حتى بعد ثورات الربيع العربي التي ماتت قبل أن تفيق الشعوب من ضربات خوذات الأنظمة المستبدة على شعوبها، ربما لهذا السبب أو غيره يتذكر السودانيون في مثل هذا اليوم منذ عام قصة التغيير الشعبي والهبة الجماهيرية التي اقتلعت نظام حكم عسكري لم يصادر كل حريات الشعب .. ولم يفتح ثكناته للمعتقلين.. ولم يسلخ جلود المعارضين بالسياط كما كانت تفعل الأنظمة العسكرية التي من حول السودان والأنظمة الملكية الجبروتية التي جلست على ظهور الشعوب من غير إرادتها، وجناية النظام النوفمبري الذي ثار في وجهه الثوار بالخرطوم في مثل هذا اليوم، أنه قرر قهر الجنوب وإرغامه على الوحدة بفوهة البندقية وقهر الجنوبيين على الانصهار بالغلبة ثقافياً وفرض اللغة العربية.. وطرد القساوسة والمبشرين.. وقررت النخب من غير اتفاق الخروج للشارع وإسقاط عسكر نوفمبر الذين استسلموا وهم على يقين بأن مصيرهم بيد رحيمة.. وقلوب متسامحة.. وبالهتافات والعصيان السياسي.. وجد الجنرال “إبراهيم عبود” أن خيارات البقاء في كرسي السلطة تضيق كل يوم، ولمواجهة سيل الجمهور ثمن باهظ.. ومنذ عام 1964م وحتى اليوم يختلف نخب السودان وقادته من صنع أكتوبر؟؟ ،هل اليسار الذي كان في عنفوان شبابه.. أم اليمين الذي يبشر بقدوم الإسلام كحل بديل.. أم القوى الطائفية التي سلمت العسكر السلطة (روب في كورة) حينما أعجزها عجزها عن الاستمرار في إدارة شأن البلاد؟.. وبعد (54) عاماً من تلك الثورة لا يزال البعض متشبثاً بعودتها في ثياب وأنفاس جديدة.. وقد شاخت معظم قيادات أكتوبر وخرجت من دائرة الفعل.. وجلست على الأرصفة تجتر ذكريات أكتوبر.. وحريات ما بعد سقوط “عبود”.. وفي بلادنا ارتبطت سنوات الديمقراطية على قلتها بضيق في العيش وفوضى طاغية في الممارسة حتى يرتعب الإنسان في بيته مما قد يحيق به في ليله.. ولكن في سنوات الديمقراطية تزدهر الآداب والفنون ويعيش الإنسان حراً كريماً.. بلا خوف يزرعه زوار الليل.. ولا قهر لنفسه وأسرته وامتلاكه لحق معارضة الحاكم ومناصحته، وهي قيم أساسها في السيرة مذكور .. وفي فجر الإسلام حينما اعترض “سعد بن عبادة” على بيعة “أبو بكر الصديق” وظل على هذا الموقف حتى وفاته.. واعترض على بيعة “أبوبكر الصديق” كذلك “علي بن أبي طالب” لمدة ستة أشهر، ثم بايعه بعد أن تيقن من عدله، ولم ينتقص من خلافة “أبو بكر الصديق” معارضة “سعد بن عبادة”، وكان “أبو بكر الصديق” حليماً صادقاً لم يزج به في السجن أو يدق عنه.. ويخرجه الفقهاء من الملة.. كما يفتي فقهاء هذا الزمان.. وقصة “سعد بن عبادة” للعبرة والاعتبار لمن يعتبر بالسيرة ، فالمعارضة أصلاً في الفطرة البشرية وضرورة لاستقامة المسيرة. وإصلاح الأخطاء، فلماذا تضيق الحكومات بالمعارضات.. وتحصن نفسها وهماً بالقوة والجبروت، وتترك للشعوب فقط ذكريات ماضيها.. تجترها في صحوها ومنامها ، كما نفعل نحن في السودان في كل عام حينما يأتي ذكر أكتوبر وأبريل.