تقارير

(المجهر) تكشف خفايا وأسرار ما قبل لقاء “هارون” و”حميدتي” في منزل الرئيس

خواطر ومشاهد بين بانغى وأنجمينا (2-2)

حديث السبت – يوسف عبد المنان

ثلاثة أسباب وراء رسالة “البشير” لـ”إدريس دبي”

وضعت الخرطوم وأنجمينا أثقال الماضي وراء ظهرها.. وما عادت ذكريات غزوة أم درمان التي بدأت من أم جرس التشادية حتى اقترب “خليل إبراهيم” من مقرن النيلين إلا أطياف ذكرى.. مثلها ومعركة “إدريس دبي” الأخيرة بالقرب من القصر الرئاسي التي كانت رداً على رسالته التي بعث بها للخرطوم.. تعافى البلدان من أعراض أمراض الأمس وتبادلا التحايا.. والتنسيق المشترك، وباتت الحدود التي كانت مصدر شقاء محمية بقوات مشتركة تحصي دبيب النمل فوق الصخور الصماء في جبل مون شمال غرب الجنينة وجبل وارا جنوب غرب الطينة التشادية.. وما بين سنوات تبادل الأذى ودعم المعارضات وسنوات ازدهار العلاقات وبلوغها مرحلة التكامل.. وتشاد رفعت كلتا يديها عن دعم المعارضة الدارفورية، وتخلى السودان كذلك عن الفصائل التي كانت تقاتل من أجل إسقاط حكم “إدريس دبي” في الوقت الذي صاهر فيه الرئيس التشادي زعيم عشيرة المحاميد “موسى هلال” ومن ثم ذهبت العروس طليقة، وأدخل “موسى هلال” نفسه في السجن قبل شهور من الآن.. ومات د.”خليل إبراهيم” وعاد “أبو قردة” وبات أهم وزراء حكومة “البشير”.. ونشط “حسن برقو” في الرياضة كجسر لنماء علاقات الشعوب بعد أن كان وكيلاً لـ”دبي” في الخرطوم.. وبعد نجاح مهمة الوزير “الدرديري محمد أحمد” في العاصمة الأفرووسطية (بانغى) في سياق البحث عن نجاح مبادرة الاتفاق الأفريقي لوقف الحرب في الدولة الأفريقية الفقيرة.. وحصوله على موافقة الرئيس “أركانج” لحضور مفاوضات السلام التي تحتضنها الخرطوم، بعد كل هذا كان ضرورياً أن تنال الخرطوم موافقة ودعم أهم لاعب إقليمي في القضية (الوسط أفريقية) وذلك لثلاثة أسباب: أولها- الارتباط الوثيق بين أنجمينا وبانغي، والأثر الكبير لدور أنجمينا في استقرار بانغى من خلال وجود حركات مسلحة تحظى بدعم وسند من تشاد خاصة الحركات التي يقودها قادة من أبناء الشمال في أفريقيا الوسطى.
ثانياً- الدور الفرنسي الذي لا ينفصم عن الدور التشادي، وباريس ظلت على تنسيق مستمر مع أنجمينا في هذا الملف.. ومن قبل طرحت دوائر في فرنسا على تشاد أن تتولى أنجمينا تنظيم جماعات مع المعارضة، وتشرف باريس من خلال القاعدة الفرنسية على تدريبهم وإعدادهم لتولي زمام السلطة في أفريقيا الوسطى.. خاصة بعد أن اتجه الرئيس الحالي إلى روسيا طلباً لحمايتها.. وأوفدت روسيا من خلال شركة خاصة عناصر أمنية لتولي حراسة الرئيس.
ثالثاً- الدور الذي يلعبه رئيس مفوضية السلم والأمن الأفريقي “موسى فكي” وزير خارجية تشاد السابق، يجعل دور بلاده محورياً في أي ترتيبات خاصة بالأوضاع في تشاد.
{ أنجمينا المهمة الواحدة
أقلعت طائرة وزير الخارجية “الدرديري محمد أحمد” من العاصمة بانغي في السابعة والنصف، وقد خيم الصمت على المدينة التي تعيش على وقع طبول الحرب وزخات الرصاص.. وبعد ساعتين أخذت الطائرة في الهبوط بمطار أنجمينا الذي تم تصميمه من قبل الفرنسيين لخدمة دولتي تشاد والكاميرون معاً.. الطائرة التي تقلع من مطار أنجمينا لن تستطيع التحليق عالياً دون العبور بالأجواء الكاميرونية، وتستفيد الكاميرون من عبور الطائرات وعبور خطوط أنابيب النفط التشادي الذي يصدر إلى العالم من خلال ميناء (دولا).. وفي سنوات مضت كانت تشاد تسعى لتصدير بترولها عبر ميناء بورتسودان، ولكن رغبة الشركات الفرنسية كانت عاملاً حاسماً في اختيار ميناء (دولا).
في المطار الذي بدت عليه تحديثات في السنوات الأخيرة وهو يتوسط مدينة أنجمينا.. كان أعضاء السفارة السودانية في استقبال الوزير “الدرديري” إضافة لوزير خارجية تشاد، ومكثنا أقل من نصف ساعة ومن ثم توجهنا إلى منزل السفير “عبد العزيز حسن صالح” وهو سفير محترف وشخصية ذات أبعاد متعددة ومقدرة على الحوار، وفي منزله الواقع في وسط العاصمة حي السفارات كانت دعوة عشاء سودانية خلت من البروتوكولات الصارمة.. وفي العاشرة مساء اتجهنا لفندق (راديسون بلو) وهي شركة كبيرة تملك عدداً كبيراً من الفنادق في بلدان أفريقيا وأوروبا.. ويقع الفندق الذي يتألف من ستة طوابق ويسع ستمائة غرفة على ضفاف نهر شاري.. وتنتشر في حدائق الفندق جلسات القهوة الحبشية.. وفي العاشرة من صباح اليوم التالي اتجهنا إلى مقر الرئاسة وسط العاصمة.. الشوارع خالية من المارة.. الأسواق مزدهرة بالعطور الفرنسية والمصنوعات البلدية.. العمارات تناطح السماء، عشرة طوابق وسبعة طوابق.. الشوارع كأنك في بلدة أوروبية من حيث النظافة والعناية بالحدائق النباتية.. وفي القصر الرئاسي الذي شيده الصينيون قبل سنوات.. تبدو قاعات القصر أكثر فخامة من كثير من قصور القارة الأفريقية، الحدائق تسر الناظر إليها.. قوات الحرس الرئاسي تجلس بعيداً عن مكتب الرئيس “إدريس دبي”.. ابنه الذي يرتدي ملابس عسكرية (مموهة) “أبيض، بني وأسود” يجلس على بعد (10) أمتار من مكتب الرئيس (والده) وهو يقود الحرس الجمهوري.. الشاب الثلاثيني لا يتحدث كثيراً.. عند عبور الوفد السوداني أمامه وقف لتحية الوزير “الدرديري” بقوامه الممشوق وبشرته السمراء.
استقبلنا الرئيس “إدريس دبي” في مكتبه بحفاوة ظاهرة، ارتسمت على وجهه علامات الرضا.. وكان يرتدي جلباباً أفريقياً يميل إلى الرمادي قليلاً.. ويضع على رأسه طاقية بيضاء.. ويرتدي حذاءً لامعاً.. وعلى يده خاتم من الفضة.. يمسك بيد الزائر، فيشعره بالود والاحترام.. خرج الوفد من مكتب الرئيس لتنعقد الجلسة لمدة ساعتين تحدث فيها الوزير عن كل شيء.. وفتح الرئيس “دبي” قلبه بصراحته الشديدة وهو يبدي ملاحظات لقائد خبر دروب القارة.. وألمّ بمشكلاتها.. وأسدى نصائح للوزير “الدرديري” كيف تحقق المبادرة النجاح وأين هي التقاطعات.. وذلك بعد قراءة رسالة الرئيس “البشير”.
ولم تقتصر مهمة المبعوث “الدرديري” على تفاصيل دفع السودان بمبادرة الاتحاد الأفريقي، بل يقول السفير “الدرديري محمد أحمد” في حديثه للصحف الثلاث (المجهر) و(الانتباهة) التي مثلها رئيس تحريرها “الصادق الرزيقي” و(اليوم التالي) التي مثلها الأستاذ “محمد لطيف”.. تحدث الوزير “الدرديري” عن القضايا التي جرى بحثها في أنجمينا مع الرئيس “إدريس دبي” وشملت الأوضاع في دارفور، حيث أبلغ الوزير “الدرديري” الرئيس التشادي عن جهود الحكومة في نزع السلاح من أيدي المواطنين ومواقيت انسحاب قوات (يوناميد) من دارفور تبعاً للاتفاق بين الحكومة والأمم المتحدة.. وانخفاض معدلات جرائم النهب والسرقات بين جمع السلاح من أيدي المواطنين بدارفور وخطط الحكومة لإعادة توطين النازحين في قراهم التي نزحوا منها وتأمين القرى حذراً من هجمات التمرد وعصابات النهب التي تهاجم الأهالي بغرض التكسب.. ودفع جهود عودة اللاجئين السودانيين من شمال تشاد إلى ولاية شمال دارفور، ومحليات دار زغاوة في الطينة وأم برو، والخدمات التي تقدمها الحكومة للعائدين من معسكرات النزوح ومعسكرات اللاجئين.. إضافة إلى إطلاع الرئيس “إدريس دبي” على مسار تنفيذ اتفاقية السلام في جنوب السودان والمفاوضات المتوقع عقدها في الخرطوم في منتصف نوفمبر لفرقاء دولة أفريقيا الوسطى، وما ينتظر أن تلعبه تشاد في تلك المفاوضات المهمة.. وعند الساعة الثانية ظهراً أقلعت طائرة الوزير عائدة للخرطوم بعد نجاح مهمته في العاصمتين بانغى وأنجمينا وتحقيق الأهداف التي طار من أجلها إلى هناك.
{ “هارون” و”حميدتي”.. وداعاً للكلام
إذا كان الرئيس “عمر البشير” قد استثمرت القارة الأفريقية في خبراته وحضوره وعلاقاته.. ونجح في نزع فتيل الحرب في دولة جنوب السودان بعد أن عجز الغرب ووكلاؤه في المنطقة ولمدة ثلاث سنوات من التفاوض المتعثر عن تحقيق السلام، وقد توصل “البشير” لاتفاق أنهى الخصومة المريرة بين “سلفاكير ميارديت” رئيس حكومة جنوب السودان ود.”رياك مشار” زعيم المعارضة، فإن نجاحات “البشير” الخارجية لن تحقق مقاصدها إذا كان هناك تصدع في جدران بيته الداخلي.. ويهاجم قائد أهم قوة عسكرية في الفضاء الإعلامي أهم ولاة الولايات وأقربهم للرئيس “عمر البشير”.. ولم يخذل قيادات كبيرة في الدولة والمؤسسة العسكرية الرئيس “عمر البشير” حينما استطاع قيادات هم: الفريق أول “بكري حسن صالح” النائب الأول للرئيس، والفريق “عوض ابن عوف” وزير الدفاع واللواء “عبد الله علي صافي النور” واللواء “عبد الرحيم حمدان دقلو” الشقيق الأكبر لـ”محمد حمدان دقلو” والمهندس “صلاح قوش”، لم يخذلوه في حمل “هارون” و”حميدتي” على التصافي والتوافق، وقد التزم مولّانا “هارون” منذ أن أطلق “حميدتي” حديثه الغاضب عبر قناة (سودانية 24) الصمت وترك للقيادة حل أي خلاف بينه و”حميدتي” عبر المؤسسات، وأمسك لسانه في موقف نبيل وشجاع ومسؤول جداً.. في الوقت الذي كان “حميدتي” شجاعاً جداً في تقديم اعتذاره لأخيه “هارون” والشجاعة (لا تتجزأ) عند من يقاتل ولا يخاف الموت مثل “حميدتي” يملك شجاعة الاعتذار والرجوع من الخطأ للصواب.. ومساء (الأربعاء) جمع الرئيس “البشير” بحكمته وصبره ونفاذ بصيرته القائد “دقلو” والوالي “هارون” في منزله الذي شهد حل أكثر القضايا تعقيداً في الساحة.. ولم يمض وقت طويل على لقاء الرئيس بهما حتى بُثت صورة في الفضاء جمعت القائد “البشير” بجندييه “هارون” و”دقلو” والابتسامات تضيء الوجوه.. وقد خابت توقعات المتربصين.. وتبدّد حلم الحالمين بتصدع جدار الحكومة وتصاعد الخلافات.. وانقشعت بذلك سحابة ظللت علاقات “حميدتي” و”هارون”.
وإذا كان الوالي يشعر بأن ظلماً قد حاق به من أخيه “حميدتي” فإن الأول قد صبر كثيراً على المتربصين بقوات الدعم السريع التي تتعرض للظلم الشديد.. ويتم تصويرها في الإعلام (المعادي) للدولة بالقوات المتوحشة التي تعتدي على المواطنين دونما أسباب، وتقتل وتحلق رؤوس الشباب في الخرطوم، وهي لم تفعل أي شيء من هذا القبيل إلا قتالها للتمرد وحلق رؤوس المتمردين في دارفور وكردفان، حتى أنهت أسطورة التمرد وطردته خارج الحدود وبات مجرد عصابات تقاتل في دول الجوار لمن يدفع خاصة في ليبيا.. لذلك بدا “حميدتي” بحرصه الشديد على سمعة قوات الدعم السريع وهو القريب منها في الميدان غاضباً على الذين يبثون الشائعات وتلك هي غضبة المظلوم.. وفي سياق رده على أسئلة الزميل “الطاهر حسن التوم” (تطاير) الشرر من لسانه وأصاب ثياب مولانا “أحمد هارون” الذي يبني ويعمّر الأرض ويسقي الناس الماء ويمد طريق الصادرات.. وشعر “هارون” أيضاً بالظلم من جهة عدم تقدير ما يقدمه من عطاء في ميادين نفير النهضة واستعادة “حميدتي” لأحداث غابرة كان مسرحها قرى حول مدينة الأبيض.
الآن انقشعت الأزمة، وتصافى “هارون” و”حميدتي”، وخابت مرة أخرى آمال الجالسين في الأرصفة يمنّون أنفسهم بزوال حكم الإنقاذ بيد قادته من خلال خلافاتهم المتوهمة.. لكن حكمة الرئيس قادرة على درء المخاطر عن حكومته.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية