أخبار

خربشات

(1)
هل السودانيون يعشقون وطنهم أكثر من غيرهم من شعوب الدنيا.. الحنين للتراب وللسمر الراجلين في الشوارع هائمين بحثاً عن شيء مفقود.. يجعلونك في حالة مقارنة بينهم وشعوب العالم والمدن بتفاصيلها وسماتها.. وروائحها وأنفاس صباحاتها.. تظل حاضرة في مخيلتك الخرطوم بغبارها.. وحجارها.. وشوارعها المتربة.. عندما كانت سيارات الوفد السوداني تجوب شوارع العاصمة التشادية أنجمينا.. من فندق (ردسون بلو) في الطريق إلى القصر الرئاسي للقاء الرئيس إدريس دبي.. بدأت أنجمينا كعروس حسناء.. مثل فتاة قرعانية يوم زفافها ، والقرعان الذين حكموا تشاد من خلال الرئيس السابق “حسين هبري” نساؤهم أجمل النساء.. ورجالهم من أشجع المقاتلين في ساحات الوغى، وللقرعان في أم درمان (أم بده) مشويات للحوم التيوس يرتادها من يعرف أسرار لحم التيس.. العاصمة أنجمينا خرجت من رماد الحرب إلى الازدهار والنماء.. نظيفة في ملابسها.. بل تعتبر أنجمينا اليوم من أكثر العواصم الأفريقية نمواً وازدهاراً.. شوارع بلا حفر ولا مطبات.. أسواق منظمة.. وصحة البيئة تتمناها في مدينتك سواء كانت الخرطوم أو مدني أو بورتسودان. القصر الرئاسي واسع فخيم شيده الصينيون قبل سنوات.. مكتب الرئيس “إدريس دبي” بسيط.. وأنيق.. الشوارع المؤدية إلى القصر قد نزعت الحرب أشجار النيم وارفة الظلال.. وسائق العربة الدبلوماسية حدثنا بضمير الفاعل.. كنا نقاتل وكنا نتصدى.. وكنا ننزع الأشجار ونعيق تقدم قوات المعارضة.. الرجل من (البرقو) وأخذت أتحدث إليه ببضع كلمات من لهجة البرقو التي تعلمتها في صغري حيث عشت وسطهم وأصبحت جزءاً منهم في قرية مناقو الواقعة شمال الدلنج وشرق أبوزبد.. وقد كشف السائق عن مهنته الأخرى أو الأولى كمقاتل في صفوف جيش حكومة تشاد قبل أن يصبح سائقاً.
أنجمينا أنظف من الخرطوم.. ولا تنقصها الخدمات من مياه وكهرباء.. ولا تصطف السيارات في محطات الوقود بحثاً عن الجازولين والبنزين.. ولا يقف المواطنون في انتظار الصرافات الآلية لتجود عليهم بقليل من المال.
(2)
التداخل الثقافي والاجتماعي بين تشاد والسودان عميق جداً والقبائل المشتركة بين الدولتين تمثل وشائج قربى تحمي البلدين من الفتن والصراعات.. ما ظهر منها وما بطن، والقبائل المشتركة.. بين الدولتين هم: الزغاوة.. والرزيقات بكل بطونهم.. والتعايشة وخزام.. والقمر والمسيرية وأولاد حميد والحوازمة.. والبني هلبة والفلاتة والقرعان والمساليت والبرقو والأرنقا.. و(الكينيين) وهم الطوارق من سكان الصحراء الذين يقطنون في الشمال التشادي وبالقرب من الفاشر.. الزغاوة في تشاد لا يستأثرون بالسلطة لوحدهم.. والرئيس “إدريس دبي” يسقط في العدل بإشراك كل التشاديين في حكم بلادهم.. وزير دفاعه من الرزيقات .. ووزير ماليته السابق من خزام.. ويعتبر “موسى الخليل” رجل الأعمال الشهير بـ”موسى القصير” من أقرب قادة حزبه إليه وهو زعيم لقبيلة خزام العربية.. ويتولى ابنه الشاب قيادة الحرس الجمهوري.. وفي مبنى السفارة السودانية بأنجمينا طغت اللقاءات الاجتماعية بين الشعبين على الرسمي.. الأهل والعشيرة من قبيلتي خزام والماهرية (رزيقات) كانوا حضوراً في السفارة للقائي كاتب هذه السطور والصديق “الصادق الرزيقي” الذي تجمعه صلات عميقة وعلاقات بأهله هناك من رجال المال والأعمال والسياسيين ونجوم المجتمع.. أما أهلي وعشيرتي من قبيلة خزام التي هاجرت مرتين من ديارها و(حواكيرها) في منطقة رهد الجبنك فقد تعرضت في سنوات سحيقة في التاريخ لحرب إبادة وتطهير عرقي بمفاهيم العصر الحديث من أبناء عمومتهم الذين حاربوهم من أجل (ناقة)، وإذا كانت (ناقة) العريقي منسوباً لعرب العريقات وهم أبناء عمومة خزام قد مزقت أحشاء دارفور قديماً، فإن حرب دارفور الحالية قد بدأت أيضاً بناقة أو بعير (سرقه بدوي عربي من أهله الزغاوة) ، وهاجر خزام للمرة الثانية مع المهدية إلى أم درمان وبسبب تلك الهجرات أصبحت القبيلة (مشتركة) بين السودان وتشاد.
(3)
جاء “موسى أحمد” الشهير بـ”موسى القصير”.. و”سعد رمضان” و”علي أحمد شرنقو” و”أبو بكر الدود” و”سنوسي أحمد ود مره”.. و”جمال الدود” و”آدم يعقوب”.. ولسان حالهم يقول نحن شعب واحد في دولتين!!
بالمودة والحب والتقدير جلسنا على الأرائك ذات اللون الأبيض ومن غير ميعاد.. كانت اللقيا.. والأنس عن المشتركات ووشائج القربى والرحم.. والتاريخ.. والوجود العربي في دولة تشاد لا تخطئه العين، والدولة التشادية تحترم شعبها ولا تفرض ثقافة مركزية على مكونات الدولة المركبة ثقافياً.. حدثنا الأهل عن قيمة التواصل بين الدولتين شعبياً لخدمة السياسة واستقرار الإقليم.. وتطوره ونمائه ، واكتشف الأستاذ “محمد لطيف” وهو قلم أنيق جداً يكتب بمداد من ذهب، عمق التواصل بين السودانيين والتشاديين، وصديقنا “عبد الرحمن الأمين” رئيس تحرير الصيحة طريف في عباراته.. ذكي في تعليقاته.. حينما أبلغته عن زيارتنا لتشاد وأفريقيا الوسطى برفقة وزير الخارجية، سألني (ومعاك منو؟)، قلت: “الصادق الرزيقي” و”محمد لطيف” ، ضحك وقال :(آه. ماشين أهلكم) طيب “محمد لطيف” دا ماشي وين؟!!
نعم (ماشيين أهلنا) تشاد جزء منا.. وأهلها عشيرتنا.. شعرت عميقاً بأنني وسط أهلي.. أعرفهم بسمائهم وحرارة الاستقبال وبشاشة الوجوه.. وكرم الرجال وهم يبدون حسرة على (ضيق الوقت) ، وقال “موسى القصير” وهو قريب جداً من رئيس الدولة “إدريس دبي” ونافذ جداً في الحزب الحاكم، ويعتبر من قادة قبيلة خزام ورموزها الشامخة.. أنتم تستحقون أن نحتفي بكم في بيوتنا ولكن في ذمتكم زيارة مؤجلة لقضاء أيام بيننا، نحن هنا لا نميز بين “الرزيقي” والخزامي والقرعاني والزغاوي كلنا تشاديين وبنحب أهلنا في السودان.
(4)
لـ”خالد شرف الدين” ابن قرية السنجكاية.. ومدير إذاعة نيالا ديوان شعر بعنوان “بعض الهزيمة انتصار”، وجاء في قصيدته استراجعات قسرية..
من تكوني أيتها الناشرة عبق ذكرياتي
عبر الآفاق البعيدة
من تكوني إن لم تكوني مرفأً آمناً
أو مدينة أحلام جديدة
خبريني كيف استبحت خزانة أسراري
وبعثت ذكرياتي الوئيدة
وهذا الصوت أيما آذان تسمعه
لا ريب هي آذان سعيدة

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية