حوارات

(المجهر) تزور زوجة الفنان الراحل “مصطفى سيد أحمد” “بثينة محمد” بدارها بمدينة هاميلتون الكندية وتخرج بالمثير (١-٢)

“مصطفى سيد أحمد” لم يكن شيوعياً في يوم ما.. كان تقدُّمياً ومنحازاً للشعب
ما شدني لـ”مصطفى” المعلومات الكثيرة والمعرفة الغزيرة.. كان عبارة عن موسوعة
تزوجت بطريقة تقليدية تعرّف على أسرتي عن طريق طرف ثالث وطلبني للزواج
كندا – محمد عثمان يوسف حبة
آخر مرة رأيت فيها الأستاذة “بثينة محمد زوجة” الفنان الراحل “مصطفى سيد أحمد”، وهي في الطريق داخل عربة اللواء “عبد الحي محجوب” برفقة ولديها “سامر” و”سيد أحمد”.. واللواء “عبد الحي” أحد الضباط الناجين من مجزرة بيت الضيافة في العام ١٩٧١ بعد انقلاب “هاشم العطا” وهو ابن حي السجانة.. وفي منطقة السجانة عاش “مصطفى سيد أحمد”، سنين طويلة من حياته الفنية الباكرة القصيرة.
كانت أول وآخر مرة رأيت فيها زوجة الراحل “بثينة محمد” برفقة ابنيهما وهي قادمة من الإسكندرية بينما كان جثمان الراحل المقيم محمولاً على أجنحة الحب واللفهة والترقب والانتظار لآلاف المستقبلين من جميع الأعمار والفئات العمرية، وكان ذلك وسط الحشود الكثيفة بمطار الخرطوم يوم 18/1/1996.
وبعد (22) عاماً من ذلك اللقاء أخبرني ابن أختي المقيم بمدينة هاميلتون بكندا أن نفس الحي الذي يسكن فيه يقطن به عدد كبير من المشاهير والنجوم السودانيين ومن بينهم السيدة “بثينة محمد” قرينة الفنان الراحل “مصطفى سيد أحمد”، فحملت أوراقي ويمّمت شطر منزلها للقائها، ولا تزال ثورة آخر لقاء بيننا تتراءى أمام ناظري كأن كل تلك السنوات لم تمر، اللقاء الأول والأخير في باحة مطار الخرطوم يوم الوداع الحزين.. فماذا قالت “بثينة محمد”، التي استقبلتنا بأريحية سودانية وكرم أصيل في دارها العامرة.
{ كيف كان اللقاء الأول بينك والفنان “مصطفى سيد أحمد”؟
_ اللقاء الأول بيني و”مصطفى سيد أحمد” كان في العام ١٩٨١ عندما سجلنا له زيارة في معهد الموسيقى والمسرح حيث كانت ترافقني في العربة شقيقتي “ماجدة” وصديقتي “هدى”.. وغيرهما من الصديقات المقربات.. لم نمكث طويلاً سلمته شريطاً فارغاً (كاسيت جديد) وطلبت منه أن يقوم بتسجيل بعض الأغاني عليه. وأذكر عندما سلمته الكاسيت لم يرفع رأسه تجاهنا مطلقاً.. ومن أكثر الأغاني التي عشقتها كمعجبة بالفنان “مصطفى” أغنية (الحزن النبيل) لـ”صلاح حاج سعيد” وأغنية (يا سر مكتوم في جوف أصداف) وقام بتسجيلهما في الكاسيت بالعود.
{ ثم ماذا بعد اللقاء الأول وتسجيل الكاسيت؟
_ بعد هذا اللقاء الأول سافرت إلى دولة قطر، حيث مكثت هناك حوالي ستة أشهُر مع أختي لظرف اجتماعي خاص وعدت إلى أرض الوطن ولكن لم يكن بيننا أي لقاءات غير التواصل عبر أعماله الفنية لأنني كنت وما زلت معجبة ومستمعة جيدة لأعماله المختلفة والتي تصل إلى (600) عمل غنائي.. وكنا نتابع حفلاته. وكنا نتكلم كأصدقاء لمدة عام تقريباً حول أعماله وأغانيه واختياراته ولكن لم يتطرق أو أشير إليه بأي نوع من العواطف أو الشعور الخاص.. ولم يكن بيننا أية إشارات حب.. كنا أصدقاء وأصحاب.. ولكن لا أخفي إعجابي والذي شدني إليه هو أخلاقه العالية وقمة التهذيب الذي ظهر أثناء حديثه أو في طريقة تعامله واحترامه للآخرين.. بل أكثر ما شدني وأدهشني فيه المعلومات الكثيرة والمعرفة الغزيرة التي كان يتمتع بها، هو كان عبارة عن موسوعة إذا فتح أي موضوع معرفي يتحدث إليك حديث العارف والحصيف.. بل كنت أجد كل الإجابات للأسئلة التي تدور في مخيلتي وهو يضيف إليك كل يوم شيئاً جديداً.
{ كيف تم الزواج بعد تلك الصداقة والمعرفة.. هل كان بطريقة سودانية تقليدية؟
_ طبعاً كان قد تعرف على أسرتي عن طريق صديق ثالث وطلبني رسمياً من أهلي وتم العقد في العام ١٩٨٥ ومراسم الزفاف والزواج كان في العام ١٩٨٦.. كل هذه الإجراءات تمت في منزل شقيقتي بامتداد الدرجة الثالثة وكان “مصطفى” يسكن مع أصدقائه في منطقة الديم.. تم الزواج ومكثنا في السودان إلى عام ١٩٨٩.. وبعدها سافر إلى موسكو في تلك الرحلة المؤلمة الحزينة…
{ (مقاطعة).. لماذا وصفتِها بالمؤلمة وكيف اكتشف “مصطفى” إصابته بمرض الفشل الكلوي؟
_ بعد برهة من صمت حزين وزفرة ألم بائن أبدتها الأستاذة “بثينة محمد” قالت.. في أحد الأيام وأثناء وجود “مصطفى” بمعهد الموسيقى والمسرح شعر بحالة من الإعياء والتعب الطارئ… كان ذلك في العام ١٩٨١.. واكتشف الأطباء في السودان أن لديه ضغط دم حاد بسبب مشاكل في الكلى وهو عيب خلقي، حيث توجد جيوب في كليته اليمنى.. ولكنه لم يكن يكترث كثيراً، لذلك واصل مسيرة عطائه الفني واللحني والإبداعي وحفلاته الكثيرة إلى أن سافر إلى روسيا لكي يطمئن أكثر على حالته الصحية ولحقت به بعد شهرين.. في موسكو هنالك أخبره الأطباء أن يعود إلى السودان ويأتي بعد شهرين لإجراء العملية التي كانت قد تقرّرت بالفعل.. وقد كان بالفعل.. وكان “سيد أحمد” و”سامر” قد ولدا وعمريهما دون الخامسة.
{ خلال اكتشافه المرض وبعد زواجكما وإنجابكما “سيد أحمد” و”سامر” هل أثر كل ذلك في مسيرة الفنان “مصطفى سيد أحمد” الفنية؟
_ كان ذلك أكبر دافع لمواصلة العطاء والمسيرة الفنية، بل بالعكس كلما كان يشعر بأي آلام كان يمسك العود ويعزف لحناً أو يؤدي أغنية أو يؤلف لحناً جديداً.. وعلى ما أذكر كان قد زارنا في المستشفى بموسكو الشاعر “بشرى الفاضل” وسلّم “مصطفى” نصين شعريين من بينهما أغنية (نفسي في داخلك أعاين وأروي روحي وأشوف منابعك).. بالمناسبة هو جاءنا في المنزل بهاميلتون قبيل شهور إبان وصوله الأراضي الكندية.. ولا أخفي عليكم سراً أن “مصطفى سيد أحمد” منذ بداياته حتى رحيله لم يتغير صوته وطبقاته وحنجرته إطلاقاً سبحان الله.. وذلك يعدّ ظاهرة غريبة لفنان مرّ بنفس ظروفه المرضية والمعاناة التي وجدها في حياته أيام مرضه.. وكان صوته في منتهى الجمال.
{ خلال الكم الهائل من الأصدقاء والصديقات في حياة “مصطفى” وهو الذي خلق تلك الحالة العجيبة والفريدة من الحب.. هل كانت تنتابك الغيرة وحب التملُّك بسبب الشهرة وإحاطته بالمعجبين والمعجبات في كل وقت وحيثما ذهب؟
{ (ضاحكة).. عاوزة أوريك أنا ما كنت بغير عليه، ليه؟؟ أنا ثقتي فيه كانت لا تحدها حدود مطلقاً، وأنا أكثر شخص عرف تهذيبه وأدبه وأخلاقه، فهو إنسان ملتزم وعلى خلق ومهذب بشكل لا تتخيله.. ويتمتع بأخلاق عالية مع كل الناس.. (ضحكت) قائلة: ما تنسى أصلاً أنا كنت معجبة به قبل كل شيء.. سبحان الله أي حاجة كانت تحصل في حياته الفنية خارج إطار الأسرة كان يخبرني ويشاورني فيها.. طبعاً كانت لديه معجبات أكيد.. كان عندما يمشي الحفلات مع الفرقة تأتي الفتيات والنساء، ويكتبن وريقات إعجاب.. وهكذا عندما يرجع البيت ليلاً من حفلاته يقول لي: (تعالي يا بثينة نقرأ أنا وإنت البنات كتبوا شنو).. وهذا نوع من الثقة المطلقة.. (وضحكت “بثينة” لبرهة بعد أن أسدلت ثوبها على رأسها كعادة سودانية جميلة تدل على الاحترام للآخر والحشمة للشخص نفسه).
{ ألم تلفت انتباهك أياً من تلك القصاصات؟
_ على ما أذكر أكثر حاجة غاظتني في أوراق المعجبات تلك كلام واحدة كاتباه.. (أنا لمن شفت الدبلة في يدك صدمت لكن ما مشكلة عزائي الوحيد أن الشرع حلل للراجل أربع نساء).. (هنا انفجر الحاضرون معي لهذا اللقاء، بمن فيهم الأستاذة بثينة في الضحك.. وقلت لها مداعباً: يعني الزولة كانت مصرة تكون ضرتك).
كنت أثق فيه ثقة عمياء، وأذكر عندما كانت تأتي مجموعة من البنات كزيارة لنا في المنزل كنت أحس بخوفهن ورعبهن من نظراتهن.. وكُنّ (كاشات).. فأقوم وأسلم عليهن وأكرمهن بالواجب السوداني وأقول لهن (خُشن الصالون سلمن على مصطفى.. يضحكن ويقلن لي نحن كنا خايفات منك تحرجينا).
{ هل كان “مصطفى” شيوعياً؟
_ بكل صراحة أخي “محمد عثمان”.. “مصطفى” كان فناناً منحازاً لكل فئات الشعب السوداني وطبقاته المختلفة ولكل قضاياه المصيرية.. الغلابة.. العمال.. الفلاحون.. كلات الموانئ وغيرهم.. “مصطفى” غنى للحبيبة والوطن.. وعبّر عن أحلام وتطلعات الشعب السوداني من خلال شعراء جدد عبروا عن مكنون الأمة السودانية كلها.. و”مصطفى” أتى للساحة الفنية بشعراء غير معروفين وتجربة متفردة عبرت خارج حدود الوطن.. لكن المصيبة أن هنالك أناساً أدلجوا وأطروا غناء “مصطفى سيد أحمد” لذلك اختلف الناس حوله.. بالرغم من أنه لم يكن شيوعياً بل كان تقدُّمياً في أفكاره ورؤاه ينحاز للشعب السوداني.. وإنساناً رائعاً مهذباً محبوباً لدى الجميع.. ذا أخلاق ومبادئ ومُثُل يعبّر خلال فنّه عن تطلعات وأحلام أبناء وبنات الوطن.. لذلك بادلوه ذلك الحب حتى بعد رحيله.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية