صحبة أخيار!!
* الحج عرفة والسفر صحبة، وقديماً قيل الرفيق قبل الطريق، وزاد المرء من الحياة علاقات إنسانية ممتدة، ورجال أدخرهم في الطريق إلى الأراضي المقدسة، هبطنا جدة وما جدة إلا مدينة وثق لها الشيخ “عبد الرحيم ود وقيع الله البرعي” (هبطنا جدة سلامة وجاتنا البشارة علامة)، جدة وبورتسودان توأمان يفصل بينهما البحر المالح.
رغم بعد المسافة بين جدة الثرية المترفة بنفطها، وبورتسودان الفقيرة بعرقها وملحها وكدحها، وعلى النقيض بورتسودان غنية ثقافياً وفكرياً، وجدة جدباء مدقعة الفقر رغم بعدها (90) كيلو متراً من (مكة) وأربعمائة من (المدينة المنورة).
* اختارت الصدفة والنوايا الصادقة ثلة من الأصدقاء لرحلة الحج مما أضفى على الأسبوع في الأراضي المقدسة حلاوة معاشرة وطيب أيام وغسل أدران في الأرض التي عزها العزيز الجبار، كنا (جماعة) بلغة الإسلاميين و(شلة) بلغة أهل اليسار، وحينما جاء “أحمد الشريف عثمان” بأحد اليساريين لصحيفة (ألوان) متأبطاً زمزميته منكوش الشعر، سأل اليسار حديث العهد بالصلاة (شيخه) أحمد الشريف (بتصلو شلة).
* ونحن في (المدينة المنورة) اخترنا بالإجماع غير السكوتي البروفيسور “محمد البشير عبد الهادي” الأستاذ الجامعي وعاشق الدوبيت كما كان يطلق عليه تلك الصفة الراحل “محمد طه محمد أحمد”، وليت كل قادتنا ورموزنا يعشقون الدوبيت مثل “ود عبد الهادي” المثقف بلا ادعاء والمتواضع حد التصوف، أصبح أميراً لجماعتنا، لكنه أمير بلا أنياب يمد الشورى، “محمد بشير عبد الهادي” خبير في الأراضي المقدسة، يعرف دروب (مكة) وطرقات (المدينة) ومتى تصلي في الروضة، وكيف تطوف دون زحام. وتم اختيار شخصي الضعيف وزيراً للمالية، لكني فشلت في المهمة رغم محاولات السفير “سليمان عبد التواب” إقناع الجماعة بحسن أدائي، و”عبد التواب” دبلوماسي يقرأ حتى هجعة الليل الأدب والتاريخ، وله قصائد ودواوين يرفض البوح بها. ولكن “سليمان عبد التواب” لم يكتب قصيدة غزل في وزيرة خارجية موريتانيا التي فضحت سفراء الخارجية، وجعلت (الأعاجم) يرتادون حفلاً ليس حفلهم، وقد قال “فراج الطيب” يوماً (الشعر في العرب لا في العجم منبته)، ليظلم “فراج” أبو آمنة حامد والنور عثمان أبكر ومحمد إقبال.
* كان “هاشم هارون” رئيس اللجنة الأولمبية السودانية والوزير السابق بمثابة (شامة) في وسط جماعتنا، “هاشم هارون” صاحب تجربة في الحكم، ومواقف مبدئية أصولية من قضية الخلاف وسط الإسلاميين، كان أكثر أهل القصر تشدداً في رفض معسكر المنشية، لكن “هاشم هارون” رياضي اعتزل تشجيع (المريخ) لصالح (الهلال) وفاز بمقعد رئاسة اللجنة الأولمبية للمرة الأولى رغم وقوف المؤتمر الوطني ضده، وحينما تسأل “هاشم” عن تلك الواقعة يضحك ويقول (الحزب الحاكم ليس بالضرورة نافعاً في كل الحقول).
* وكان خامس رفيق وصديق درب مولانا “علي الخضر” المستشار القانوني بولاية الخرطوم، و”علي خضر” مثقف واقعي وقانوني تسند ظهره تجربة ومعرفة ودهاء وصلابة ورقة إحساس، كان “علي خضر” يفيض دموعاً قرب قبر المصطفى “صلى الله عليه وسلم”. أيام انصرفت مسرعة وجماعة اجتمعت على محبة في أطهر بقاع الأرض، حينما افترقنا في مطار الخرطوم بكى الجميع كل بطريقته الخاصة، وأخذتنا المدينة كل إلى سبيله على وعد باللقاء إن كانت في العمر بقية!!