{ في مرحلة الصبا والطفولة كان أبسط أناشيد المرحلة الابتدائية وأكثرها انتشاراً في أدمغة التلاميذ وقتها هو نشيد (أحبُّ) الذي كان يسري فينا وقتها مسرى (السلام الجمهوري) للتلاميذ.. كان عيباً أن تكون وقتئذ لا تحفظ هذا النشيد الذي تم اختياره بعناية من (وزارة التربية والتعليم) ليكون أولى قطرات التعليم والتربية التي يتم دلقها على أفئدة النشء والأطفال رغم أننا كنا نجهل ناظمه.
{ لا أحد إذن من الجيل القديم لم يحفظ نشيد (أحبُّ) الذي تحرض أبياته على الحب والتفاؤل واحترام الآخر وتوقيره.. اقرأوا معي هذه الأبيات الرائعة:
أحبُّ الورد والزهرا أحبُّ الماء والشجرا
أحبُّ الجو معتدلاً أحبُّ الشمس والقمرا
أحبُّ الطير صداحاً أحبُّ الضوء منتشرا
أحبُّ النهر فياضاً يسر القلب والنظرا
أحبُّ أبي ووالدتي إذا غابا وإن حضرا
أحبُّ الشعب متحداً أحبُّ الشعب منتصرا
{ وهذه السلامة النفسية التي تميز الأجيال السابقة ربما كانت نتيجة منطقية لما تربوا عليه في طفولتهم الباكرة من مثل هذه الأناشيد والمحفوظات، التي كانت تمنحهم الطمـأنينة الوجدانية والسكون واحترام الكبير وتوقيره.
{ ولكن بعد زمن ليس طويلاً في عمر الشعوب تبدل هذا الأمر تماماً وحلت عناصر أخرى لديها القدرة والإمكانية على التأثير أكثر من هذه الأناشيد التي كان يلقى على عاتقها تربية أجيال وأجيال.. أجيال استطاعت أن تحافظ على إيقاع القيم من الاختلال واستطاعت اجتياز كثير من أزمات العولمة وتأثيراتها التي تنهش في عصب المجتمع وتحيله إلى ما يشبه (الهباء المنثور).
{ مطربة شابة ذات وعي كبير برسالتها الفنية هي “عبير علي” اشتكت لي قبل فترة من أنها زارت إحدى مدارس الأساس والتقت ببعض التلاميذ فيها وأبلغتهم أنها ستغني لهم ما يحبونه.. فكانت صدمتها عظيمة حينما خاطبها التلاميذ بصوت واحد (غني لينا أغنية بتدقا).. وقتها أسقط الأمر في يدها ولم تدر ما تفعل.. فهل تنفذ طلب هؤلاء الصغار وتساهم بالتالي في تغذية عقولهم بهذا التسطيح والثقافة السلوكية التي تحرض على العنف ونبذ الآخر بالإضافة إلى ما تحويه من إشارات سلوكية خطرة للغاية، أم تعتذر لهم بلطف؟ وقد فعلت الصواب بالاعتذار لهم.
{ لن يكون بمقدور القائمين على أمر التربية والتعليم في بلادنا قراءة هذا التحوُّل الخطير خلال سنوات قليلة في عقول التلاميذ بعيداً عن النظر إلى جهات أخرى تساهم ربما بالقدر الأكبر في هذه الانحرافات السلوكية.
{ الفنانون الشباب.. ووسائط التواصل الاجتماعي.. وانتشارها السريع وسرعة تأثيرها وسهولة الاطلاع عليها أكبر المؤثرين حالياً في أدمغة التلاميذ.. وانحرافها.
{ فنانون شباب يصرون مع سبق إصرار وترصد على اغتيال الطفولة والعبث بأدمغة المراهقين بما يرددونه من أغانٍ سطحية ومبتذلة لها القدرة على التغلغل في عقولهم سريعاً مثل (بتدقا.. الخالات تمام.. ولو فتحتوا القلوب تلقوا جنس عفانة..) وغيرها.. وتحل بالتالي في مكان أناشيد كان من الممكن أن تنير عقولهم وقلوبهم وتجعلهم أكثر اتزاناً وتسامحاً مع الآخر مثل (أحبُّ، ووصية أب لابنته) وغيرهما.. فالملعب الآن بات يتسع أكثر لمن يصفع المجتمع ويصنع اختراقات سلوكية صادمة ويضيّق على أصحاب المواهب الحقيقية الذين يهمهم الإصلاح وتنقية المجتمع من الشوائب.
{ أدركوا أولادكم.. فقد يأتي زمن تندمون فيه على أنكم تعاملتم مع هذا الأمر بهذا التجاهل وعدم الاكتراث.. (عشان عيون أطفالنا ما تضوق الهزيمة).