قراءة في المشهد
لهذه الأسباب جاء “عثمان كبر” للقصر وخرج “حسبو”
يوسف عبد المنان
في وقت متأخر عشية أول أمس (الأحد) انفض اجتماع المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني وخرج بقرارات التعيين التي صادق عليها القيادات دون تعديل.. في انتظار جدل تشكيل نصفي لحكومة الوفاق الوطني يشمل وزراء القطاع الاقتصادي والخدمي بعد تجديد الرئيس ثقته في وزراء القطاع الأمني والسياسي لتسيير وتصريف أعمال الدولة إلى حين اختيار بقية أعضاء الحكومة.. ولم يفاجئ أحداً إعفاء الفريق “بكري حسن صالح” من موقعه كرئيس لمجلس الوزراء والإبقاء على موقعه كنائب أول للرئيس باعتباره الشخصية المتفق والمتوافق عليها بين مكونات الدولة عسكريين ومدنيين كخلفية للرئيس “البشير” في الحالات الطارئة والانتقال الطبيعي.. وبدا منصب رئيس الوزراء ثقيلاً على الجنرال “بكري” وخصماً على صورته في مخيلة المواطنين وليس إضافة له.. وذلك للاعتبارات التالية.
أولاً- طبيعة النظام الرئاسي الذي يحتكر السلطة عند مؤسسة الرئاسة وحدها، والتناقضات والتقاطعات ما بين النظام التنفيذي (مجلس الوزراء) والنظام السياسي.
ثانياً- الخيط الرفيع الذي أمسك به الجنرال “بكري” للمحافظة على علاقة متينة والسعي حثيثاً لدرء مخاطر التنازع والتشاكس.
وأمام رئيس الوزراء الجديد “معتز موسى” جملة مصاعب وتحديات ومطلوبات والتزامات، وفي كتاب الرئيس الجديد للحكومة تحدي الأوضاع الاقتصادية البائسة وتدني الخدمات التي تقدمها الحكومة للمواطنين.. وتناسل الأزمات من شح الوقود إلى نقص السيولة وفقدان المواطنين ثقتهم في الجهاز المصرفي، وتسرب الأموال من البنوك إلى خزن الحديد في البيوت والمتاجر.. ونقص وشح الوقود وغاز الطبخ وتدهور حياة المواطنين وعجز الدولة عن واجباتها المتعارف عليها أخلاقياً.. وإذا كانت القضية الاقتصادية قد هزمت حكومة الوفاق في نسختها الأولى فإنها أكبر تحدٍ الآن يواجه حكومة المهندس “معتز” الذي من جهة تسنده ثقة الرئيس في ولائه السياسي وولائه لشخص الرئيس.. وخبرة ممتدة لأكثر من (20) عاماً في دهاليز السلطة والحزب والحركة الإسلامية، تقلب فيها الشاب الأربعيني من مدير مركز إلى سفير بالخارجية وتنفيذي بوزارة الري ووحدة السدود.. وحقق “معتز موسى” نجاحاً بفريقه المفاوض في ملف المياه بجعل السودان يفاوض وعينه على مصالحه بعد أن كان في السابق يفاوض لمصلحة آخرين.. وبخروج “معتز” من وزارة الموارد المائية تخسر الحكومة شخصية مركزية في هذا الملف.. المصاعب الأخرى التي يواجهها رئيس الوزراء الجديد تتمثل في فرص ومساحة المناورة لاختيار الوزراء.. وما بين تشكيل حكومة رشيقة ذات مهام محدودة وعدد قليل جداً من الوزراء ووزراء الدولة لضمان فاعلية الجهاز التنفيذي.. وما بين مطلوبات السياسة في توسيع قاعدة المشاركة واستيعاب الحلفاء والأصدقاء والشركاء سيواجه المهندس “معتز” معضلات حقيقية، وداخل حزب المؤتمر الوطني الذي ينظر بعين مفتوحة لانتخابات 2020م فإن اختيار أفضل الكفاءات لتقديم عطاء جيد يتطلب إغلاق ملف التوازنات نهائياً.. وتجميد الرؤى السياسية التي تتطلب تمثيل الجهويات.. وتمثيل التكوينات العرقية والقبلية.. وفي حال الاتفاق على تكوين حكومة كفاءات مجردة من التوازن القبلي قد يصبح كل وزراء الحكومة المركزية من ولاية واحدة ونصفهم من محلية واحدة.. فهل يستطيع المؤتمر الوطني تحمل تبعات ذلك؟؟ أما إذا طغت التوازنات والمشاركات فالاتحادي الديمقراطي بشقيه ينتظر وزارة لكل حزب على الأقل.. والشعبي وأنصار السنّة وحركة تحرير السودان والعدل والمساواة ومؤتمر البجة وتشظيات حزب الأمة القومي.. و”مبارك الفاضل”.. حينما ينال كل واحد من هؤلاء وزارة تسقط (الكفاءة) والمقدرات ما بين القصر ومجلس الوزراء.. وداخل حزب المؤتمر الوطني إذا كان بالضرورة تعيين وزير من الجعليين وآخر من الدناقلة وثالث من المساليت وخامس من الفور وسادس من البديرية وسابع من الجوامعة وثامن من القمز وعاشر من الوطاويط وحادي عشر من الهدندوة وثاني عشر من الحلنقة.. فالكفاءات ستبقى حبيسة الكليات بالجامعات أو في مكاتب التصدير والاستيراد بعمارة الشيخ “مصطفى الأمين”.
وأخيراً رئيس مجلس الوزراء الجديد يواجه مأزقاً أكبر من ذلك في قدرته على اختيار وزير مالية يخطط لزيادة الموارد وليس وزير خزانة يقبض على المال الشحيح ولا تملك وزارة المالية ولاية حقيقية على المال العام.. وقبل ذلك هل يختار “معتز موسى” حكومته حتى يتحمل مسؤولية اختيارها أم يتم اختيارها له؟؟ ويجد نفسه يقود سيارة لا يعرف أعطابها القديمة ولا تاريخ صناعتها.. ولا قدرتها على السير بسرعة (140) كلم في الساعة.
{ بين “عثمان كبر” و”حسبو”
حتى وقت قريب كان “حسبو محمد عبد الرحمن” تصعد نجوميته ويزداد بريقه بحركته الدؤوبة.. ونشاطه الكثيف ومثابرته على أداء المهام التي تسند إليه، ووضع الرئيس على عاتقه إدارة القطاع الاقتصادي، فذهب إلى الجزيرة والشمالية.. ومكث الليالي وسهر حتى الصبح مع المزارعين حتى تضاعف إنتاج القمح.. ووضع الرئيس على عاتقه ملف جمع السلاح والعودة الطوعية، وفي سبيل إنفاذ توجيهات الرئيس وضع “حسبو” أبناء عمه في السجن.. وعزل بعضهم من مواقعهم التنفيذية.. وطاف دارفور (قرية قرية) وجاب كردفان محلية بعد الأخرى.. وتوغل في الشمال حتى حلفا.. وشرقاً حتى قرورة والكرمك.. والنجاحات التي حققها “حسبو” في الملفات التي أسندت إليه كانت واحدة من أسباب (الغيرة) التي انتابت بعض أقرانه الأقربين.. وتصيد البعض أخطاء خطابه السياسي في بعض الأحيان، وفي الأيام الأخيرة سُحب منه بعض الملفات.. في دولة إذا طغى نشاطك على الآخرين تحرش القاعدون بالواقفين.. وانتصر العاطلون على (الفالحين).. وتعددت أحاديث الدارفوريين عن ضرورة تبادل منصب النائب بين مكونات الإقليم، بعد “الحاج آدم يوسف” الذي ينتمي لعشيرة البني هلبة ولولاية جنوب دارفور ذهب المنصب لـ”حسبو” في شرق دارفور من قبيلة الرزيقات.. والفرصة الآن لولاية شمال دارفور ولقبيلة البرتي.. فاختير د.”عثمان يوسف كبر” الوالي السابق لشمال دارفور والشخصية السياسية ذات البريق والصيت والقدرة على التعبير.. ووضوح المواقف.. فالقيادي “عثمان يوسف كبر” الذي (يُكنى) بالسلطان لعب دوراً محورياً في مجلس الشورى بحزب المؤتمر الوطني.. وطاف السودان بالسيارات والطائرات وحرص على حضور كل مؤتمرات الشورى الولائية وعينه على مسألة ترشيح المشير “البشير” في صمت ونسج “عثمان كبر” مع البروفيسور “كبشور كوكو” خيوط ترشيح “البشير” حتى (مرّ قطار الترشيح) وأيقن الرئيس “البشير” أن السلطان الذي وقف معه يوم مطالبة محاكمة الجنايات الدولية به.. والقيادي الذي وقف يوم مقتل د.”خليل” وهو في منصب الوالي، وقال كلمته للتاريخ (د.”خليل” أخونا، لكنه اختار طريقاً خاطئاً ربنا يتقبله)، كانت كلمات منصفة في ليلة عاصفة بالعواطف الهوجاء.. والعمى النهاري.. فكسب الكثير جداً.. ولم تخل مسيرة “عثمان كبر” من انعطافات شديدة.. ومواقف مختلف حولها.. ولكنه الآن أمام لحظة تاريخية في إثبات قدرته على الإضافة لمؤسسة الرئاسة.. وحتماً ستذهب ملفات جمع السلاح والعودة الطوعية إلى مسؤولياته، إضافة إلى الملفات التي يتوقع أن تسند إليه في الفترة القادمة.
ويواجه “عثمان كبر” مصاعب أيضاً أبرزها كيفية تجاوز فترة ولايته لشمال دارفور.. والذين كانوا معه وذهبوا عنه.. وكيفية التوازن الدقيق جداً في التعامل مع ملفات دارفور.. و”كبر” سياسياً يستطيع عبور كثير من المتاريس التي سيواجهها في مهمته الجديدة.
{ عودة “علي محمود”
جاء في الأنباء أن خيارات القيادة التي يتم تداولها الآن قد انحصرت ما بين عودة الوزير الأسبق للمالية “علي محمود عبد الرسول” ووزير الزراعة الأسبق “عبد الحليم المتعافي” وكلا الخيارين مجربين.. وقد خرج “علي محمود” من وزارة المالية والدولار بسبعة جنيهات.. وجاء “المتعافي” لمنصب والي الخرطوم وقال إنه سيجعل من الفراخ وجبة شعبية للسودانيين.. وحقق ذلك بما يشبه المعجزة في الإدارة وحسن التخطيط.. وإذا كان “علي محمود” قد ظلمته النخب في السخرية من دعوته لتناول الكسرة فقد أنصفته الأيام وأثبتت صحة رؤيته وصواب تفكيره.. و”علي محمود” اقتصادي لا خلاف حوله.. ولا جدال في قدرته على فعل الكثير، لكن تمدّد الأمل في التغيير والتجديد هو ما أفقد بلادنا كثيراً من الكفاءات.