حوارات

المفكر والقيادي الجنوب سوداني د. “فرانسيس دينق مجوك ” (2ـــ3)

*الواقع يوحد الشمال والجنوب أكثر مما في الأذهان

*دعمت حق تقرير المصير لخلق مناخ جيد للوحدة
*أعمل على تغيير الرابط السلبي بين دولتي السودان وخلق أرضية للتعامل
*بعد الانفصال ظهر التمييز في الجنوب واعتقاد أن الدينكا مميزون عن الآخرين.

المؤرخ والباحث والمفكر د. “فرانسيس دينق مجوك ” تطارده الاتهامات بالميول الانفصالية، حتى انتقده الكثيرون قبل سنوات بأنه اتجه للتوثيق والكتابة عن أهله الدينكا وشعوب جنوب السودان كثيراً، وأغفل الشمال رغم أنه عاش فيه ردحاً من الزمن، ولكنه دافع في هذه الحلقة عن موقفه كثيراً، وبدأ وحدوياً أكثر منه انفصاليا، وأكد من خلال حديثه لـ(المجهر السياسي) أنه كان السابق في طرح مشروع السودان الجديد ووحدة السودان على مبدأ المساواة

حوار: رشان أوشي
*عينت وزير دولة بالخارجية، وسفير السودان في أسكندنافيا وواشنطن عام 1972م، حدثنا عن هذه الفترة من حياتك؟
في ذلك الوقت لدى أسس للنظرة الإيجابية للسودان، أحاول التخلص من العوامل التي تفرق، ومعظمها كان وهماً في خيال الناس لا تعكس الواقع، لأن الواقع يوحدنا أكثر مما في أذهاننا، كتابي (ديناميكية التعليم الذاتي)، أشرت فيه لذلك، طرحت على خيارات أثناء الحرب، عندما حكم نميري، طرح على صديقي الراحل “جوزيف قرنق” (من المحررة..” جوزيف قرنق” قيادي شيوعي أعدمه الرئيس “نميري” إبان أحداث يوليو 1971م)، أخبرني جوزيف بضرورة مشاركتي في العمل الدبلوماسي، اعتذرت، لأن الحرب كانت مستمرة، رغم أننا جميعنا كنا نعمل وقتها لأجل السلام، جئت للخرطوم يوم محاولة انقلاب يوليو 1971م، التقيت “جوزيف قرنق” في مكتبه نهاراً، أمضينا وقتاً طويلاً، كان واضحاً بالنسبة لي أن هناك أمراً ما، عزز إحساسي حديثه الذي أشار فيه إلى أن السياسة تجاه الجنوب الآن معطلة، ولا نعرف حتى الآن من هو المسؤول، وأنا لم أتمكن من القيام بأي شيء حتى يتغير الوقت، واعتقد أنه كان يعلم أن المسؤولية ستقع عليه قريباً، منه غادرت إلى اجتماع للأمم المتحدة في “الغابون”، وهناك تلقيت الأخبار التي تفيد بإعدامه، رجعت وكان “منصور خالد” وزير الخارجية، أبلغوني بأن الرئيس “نميري” يرغب في مقابلتي، كنت متألماً جداً لإعدام صديقي “جوزيف قرنق”، ذهبت للقاء الرئيس “نميري” في مكتبه، صادفت معه “أبيل ألير”، لم اسأله لماذا طلبتني، بل تحدثت كثيراً عن أبيي ووضعها ودورها، واستأذنت بالمغادرة، اتضح لي فيما بعد أن المقابلة كانت (interview)، وعرض بعدها “أبيل ألير” على أن أصبح قاضي المديرية، شعرت بأنني أمضيت وقتاً طويلاً في الخارج من دراسات وعمل … الخ، مسألة أن أصبح قاضياً في الأبيض لا تناسبني.
*رفضت عرض الحكومة وقتها لأن التجربة لا تناسبك أم لأن قلبك مع رفاقك المقاتلين في جنوب السودان؟
لا .. لم يكن كذلك، بل لأن تجربتي مختلفة تماماً عن وظيفة قاض في كردفان.
*(حسناً).. كيف قبلت السفارة والوزارة؟
عرض على د. “منصور خالد” أن أصبح سفيراً في الدولة الاسكندنافية، ترددت قليلاً ولم أشرح موقفي مباشرة، وبعدها طلب مني أن أصبح نائب وزير الخارجية، وقتها كنت متزوجاً حديثاً من زوجتي الأمريكية، تناقشت معها وأخبرتها بأنه من الصعب أن أرفض أربع مرات، وفي ذات الوقت أتوقع بأن ألعب دوراً في البلاد، يجب أقبل عرضاً منهم، علينا أن نقبل وظيفة السفير كخطوة أولى، وأصبحت سفيراً في اسكندنافيا، وبعدها سفيراً في واشنطن، ومن ثم وزير دولة.
*كيف كانت علاقتك بالرئيس الراحل “جعفر نميري”؟
كانت علاقة جيدة جداً، عندما التقيته بداية كان شعوري سيئا نسبة لأنه أعدم أصدقائي، ولكن وجدت له مبرراً فيما بعد، فالذين قتلهم كانوا أيضاً بصدد قتله، الأهم من ذلك أنه قام بحل مشكلة الجنوب، كما أنه كان منفتحاً للأفكار التقدمية، التي جاءت من حلفائه في بداية حكمه، ثم إنه حارب اليمين أيضا، طلب مني كتابة كتاب وقتها يعكس هذا التصور التقدمي الذي تبناه الرئيس “نميري”، وكان بمثابة السودان الجديد قبل ان تطرحه الحركة الشعبية في الثمانينيات، الكتاب الذي قمت بتأليفه لوزارة الخارجية بطلب من د.”منصور خالد”، و”نميري” قدمه للاتحاد الأفريقي (السلام والوحدة في السودان)، وأهداه إلى الرؤساء أعضاء منظمة الوحدة الأفريقية، كتبته في فترة وجيزة جداً، أمضيت أسبوعين في مركز جامعة الخرطوم الإعلامي برفقتي د. “الشوش”، قبل أن أطبعه أصررت على أن يطلع عليه مفكرون وسياسيون وباحثون حتى يدلوا بآرائهم حوله، ويؤكدون بأنه يعكس سياسة البلد التقدمية، نال إعجاب الجميع، وبعدها عدنا إلى مربع آخر عكس ما ذكر في الكتاب.
*(مقاطعة).. هل تقصد بتغير الوضع، بنقض الرئيس “نميري” اتفاقية أديس أبابا؟
نعم.. تحولت كل تلك الأفكار التقدمية إلى وضع آخر، الرئيس “نميري” كان يجيد استخدام الناس وأفكاره الناجعة، تحالف مع الشيوعيين في البداية وعمل بأفكارهم، ثم قرب منه تيارات الوسط، وآخرها تحالف مع اليمين، بالنسبة لي لم أطرح عليه رأياً ولم يقبله، قد نختلف في بعض التفاصيل ولكن بصورة عامة كان يقبل كل الآراء، بعدها استمريت في وزارة الخارجية لأسباب تخصني، في عملية السلام كنت مناصراً للوحدة، وادعم حق تقرير المصير ليس لأجل الانفصال، بل كورقة ضغط لنخلق مناخاً جيداً من أجل الوحدة، في البداية كنت اعتقد أن مفهوم السودان الجديد سينجح، ولكن عندما وجدت الناس مصرين على وحدة السودان بالحال الذي عليه البلاد، وضد قصة تقرير المصير واعني هنا المجتمع الدولي والقادة الأفارقة، بعدها كنت رئيس لجنة في الأمم المتحدة اهتمت بالشأن السوداني، خرجنا بمفهوم (السودان بلد واحد بنظامين)، وهو ما تمت مناقشته بعد في اتفاقية السلام الشامل، ولم ينجح، ووقع الانفصال، وحتى بعد الانفصال أصدرت كتاباً يتحدث عن الأمر، بأننا مربوطون مع بعض برابط سلبي، من دعم المعارضة وغيره، خلقت صلة سلبية بين البلدين، والآن أعمل على تغيير هذه الرابطة السلبية، وخلق أرضية للتعامل بين البلدين لحل مشاكلهم الداخلية، لا يمكن أن تكون العلاقة بين البلدين جيدة ومادامت المشاكل الداخلية لم تحل، مثلاً جماعة جبال النوبة والنيل الأزرق، قاتلوا مع الجنوب ناضلوا وماتوا هناك، إذا الجنوبيين نفوا صلتهم بهؤلاء الناس لن يصدقهم أحد، وإن صدقوا لن يحترمهم أحد، لا يمكن التخلي عمن ساندك لسنوات، وفي ذات الوقت لا يمكن مساعدتهم بحيث ينتج عنها صراعات ومشاكل مع دولة أخرى، إذاً المطلوب التعاون مثلما تعاون السودان اليوم لحل مشاكل الجنوب، على الجنوب أن يتعاون مع السودان لحل مشاكله.
*عندما نقض “نميري” اتفاق أديس أبابا.. ماذا كان موقفك بالضبط؟
فكرت في البداية أن استقيل من منصب وزير الدولة بالخارجية، وكنت مريضاً بالجلوكوما، تعللت بها للرئيس “نميري” حتى يقبل فكرة الاستقالة، ولكنه أصر وأخبرني بأنه سيجلب لي ما أشاء من الأطباء شهرياً، في الآخر اتفقنا أن أعود للدبلوماسية وأصبح سفيراً في كندا، وعندما أغلقنا سفارتنا في كندا، عرض على مهمة المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة، وغير رأيه عندما اندلعت الثورة بقيادة د. “جون قرنق”، طلب مني الذهاب لأديس أبابا، ناقشته بأن طلبه هذا يضعني في مواجهة مع إخوتي، وأنا مقتنع بقضيتهم، كما لا يوجد تعاون بين حكومته و”منقستو”، حاول إقناعي، في البداية وافقت، وبعدها فكرت كثيراً، بأنه لابد من التعامل بقناعة، وأنا دخلت العمل الدبلوماسي بعد أن حققنا السلام، وتمكنت من لعب دور مهم جداً في إطار أن السياسة الخارجية هي انعكاس للسياسة الداخلية، المسألة ليست فطنة وحسب بل قناعة، عندها تقدمت باستقالتي وأخبرته بعدم مقدرتي على الاستمرارية، وأبلغته أيضا بأنني سأظل أخدم البلاد في منصب أنا أتقلده، وستستمر علاقتي معك، وبالفعل كلما كان يحضر إلى واشنطن كنت استضيفه وأقابله.
*كيف كانت علاقتك بالدكتور “منصور خالد” وزير الخارجية وقتها، هل كنتما متعاونين؟
“منصور” رجل مفكر، ولديه أطروحات للبلد، ومن الشماليين الذين يؤمنون بمبدأ المساواة، وله أطروحات بهذا الشأن، والوحدة المبنية على المساوأة، أي لديه أفكار تقدمية، عملت معه سنوات وكنا متفقين في أفكارنا، وكلما بادرت بأمر ما أجد منه الدعم والمؤازرة، الدبلوماسي عندما يكون على ثقة بأنه يحظى بتأييد من القيادة يكون منتجاً أكثر، “منصور” أفكاره وحدوية وتقدمية.
*في كتابك (ديناميات التوحد أو تكوين الهوية)، تناولت قضية الهوية بعمق، الآن صار للجنوب دولة منفصلة.. كيف ترى تلك القضية؟
اعتقد أن مبدأ السودان الجديد، مضمونه خلق مناخاً يشعر فيه الجميع بالانتماء على أسس المساواة، أي (أنا سوداني) لست أقل من آخر فيما يتعلق بالثقافة أو الدين، مبدأ المساواة في كل مجتمع ليس فقط في السودان أو جنوب السودان، تجولت في العالم كثيراً، في إطار عمل النازحين نتيجة للحروب، والإبادة الجماعية، في كل بلدان العالم هناك تنوع، التحديات تصبح هي أن نوفق بين الوحدة والتنوع، هذا الأمر وارد جنوباً وشمالاً في السودان، الناس يتحدثون عن المساواة وينكرون التمييز، ولكن من ناحية أخرى هناك تمييز، في جنوب السودان قبل الانفصال كان الجنوبيون يتحدثون عن أنهم متساوون كجنوبيين أفارقة، ولكن بعد الانفصال ظهر التمييز، وأصبح الكثيرون يعتقدون أن الدينكا مميزون عن الآخرين، ولكني مازلت أقول لأن هناك روابط تجمع ليس الجنوبيين فيما بينهم ، وحسب ،بل حتى مع السودان، لذلك أرى أن التقارب بينهم يجعلهم يساهمون في تطوير البلدين، حتى وإن لم نعد للوحدة القديمة، يجب أن يكون هناك تقارب وتعاون، ممكن نسميه أي شيء آخر.
يتبع..

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية