تقارير

جرد حساب (14) على اتفاقية أوقفت أطول حرب في جنوب السودان

(نيفاشا) تطل مجدداً من الخرطوم لإطفاء حريق الفرقاء الجنوبيين

تقرير ـ هبة محمود سعيد
في واحدة من لحظات التاريخ الفارقة في حياة السودانيين وفي مثل هذا اليوم، تم التوقيع على اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) التي أتت بالسلام لجنوب السودان وجاءت بدكتور ” جون قرنق دمبيور” شريكاً في الحكم ونائباً للرئيس عقب (21) سنة من الحرب المتواصلة، ليدخل القصر الرئاسي ويرسم ملامح المستقبل مع شركائه في الشمال، ويضع سنوات الحرب الطويلة جانباً بعد أن كان رجل الحرب الأول في الجنوب، قبل أن يفارق كل ذلك خلال (21) يوماً وهي فترة حكمه التي قضاها في مفارقة قدرية عجيبة.
ظلت اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) الموقعة بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د. “جون قرنق” في العام 2005، أحد أهم الاتفاقيات التي صاغ مهندسوها ومفاوضوها بنودها دون أن تشفى ذاكرتهم منها، بينما ظل الجنوب حاضراً بكل تفاصيل الغياب كلما ساءت الأوضاع في البلدين، فالشمال يعاني اقتصادياً عقب فقده (80%) من عائدات النفط، والجنوب يحترق كل يوم وهو يشهد وضعاً مأزوماً وحروباً مستعرة.
وحسب مراقبين فإن ما يشهده البلدان، نتاج طبيعي لهذه الاتفاقية التي ولدت ثنائية بضغط دولي انصب كل تركيزها على فصل الجنوب، واليوم، بينما تحل علينا ذكرى (نيفاشا) الرابعة عشرة، تشهد البلاد توقيع اتفاقية إعلان الخرطوم لرأب الصدع بين الفرقاء الجنوبيين، على الرغم من أن الاتفاقية كانت تحمل بين طيات بنودها سلاماً لدولة الجنوب الوليدة الذي ظلت تحلم به حتى يومنا هذا.

على الرغم من أن بروتوكولاتها الستة جاءت تحمل بين طياتها بشريات سلام وضعت به أوزار أطول حرب أهلية شهدتها القارة السمراء لـ(21) سنة من الزمان مخلفة وراءها الخراب والدمار والنزوح، إلا أنها بالمقابل أفقدت السودان ربع أراضيه بعد أن منحت حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، فكان الاستفتاء للانفصال بنسبة (98%) في العام 2011، دون علم منهم أي ـ الجنوبيين ـ أن آثار الانفصال ستكون هي الأكثر قسوة عليهم بعد أن حصدت الحرب أرواح كثير منهم، بعد أن وجدوا (أرض الميعاد) التي منوا بها لم تكن إلا سراباً في مخيلة ساستهم، ولم يكن في انتظارهم سوى (الجوع، الخوف والموت)، وهي خيارات جعلت كثيراً منهم يعض أصابعه ندماً جراء تصويته على الانفصال، بينما يرى البعض منهم أن وفاة “قرنق” أفقدتهم الكثير وعجلت بخيار الانفصال.
ويعدّ القيادي الجنوبي وعضو وفد التفاوض “إستيفن لوال” أن الجنوب خسر قائداً محنكاً ورمزاً من رموز السلام في السودان الجنوبي والشمالي، مؤكداً لـ(المجهر) أن فقدانه خسارة كبيرة للشعب السوداني والأفريقي ولشعب جنوب السودان خاصة، سيما أن غيابه كانت له آثار كبيرة على المستويين (السياسي) و(الشعبي)، لافتاً في ذات السياق إلى أن اتفاقية (نيفاشا) كانت من أكثر المراحل الصعبة التي مرّ بها السودان كدولة والشعب السوداني أجمع جنوباً وشمالاً، بحكم أنها أوقفت الحرب بين البلدين وأدخلت السودان مرحلة جديدة، وقال: (رغم ذلك نحمد للشعبين أنهم لم يتفرقا وجدانياً، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على عملية التواصل بين الشعبيين وهو السمة الأبرز)، وزاد: (اتفاقية نيفاشا أوقفت الكثير من الدماء بين أبناء السودان وأدخلت عملية الانتقال السياسي في السودان). ومضى قائلاً حول ما يتعلق بتلك الدعوات التي تنادي بالوحدة بين البلدين: (مسألة الوحدة هذه تترك للشعب الجنوبي بحكم أنهم من صوتوا للانفصال وهي تخضع للاستفتاء)، وزاد: (أتوقع أن تكون هناك رؤية مشتركة تفضي لاتحاد بين البلدين يسمى باتحاد السودان، وأن تكون هناك دولتان في السودان الواحد على أن تكون العاصمة المشتركة للاتحاد هي أبيي، وأن يكون المجلس التشريعي للاتحاد جنوب كردفان حتى نستطيع حلحلة المشاكل وفتح المنافذ التجارية والتوأمة بين الولايات للمزيد من عملية الإخاء).
ولمنبر السلام رؤية ..
ما بين تأرجح التوقعات بحدوث الانفصال أو الاستمرار في الوحدة بسلام، عقب مرور خمسة أعوام من توقيع الاتفاقية والاستفتاء على حق تقرير المصير في 2011م وفقاً لما نصت عليه البنود، كان البعض ينادي بضرورة الانفصال وعلى رأسهم منبر السلام العادل، الذي ظل على موقفه رغم ما يشهده البلدان من سوء في الأوضاع. وقد أكد القيادي بمنبر السلام العادل نائب رئيس الحزب “ساتي سوركتي” أن مشكلة الجنوب بلغت مدى في الاستفحال وعمقت في العقل الجنوبي عداوة نحو الشمال تم توظيفها قبل عهد الاستقلال، وقال: (حتى عقب الاتفاقية وبالرغم من سوء بعض تفاصيلها بالنسبة للشمال وسوء صياغة بعض الفقرات خاصة الأمنية، إلا أن الجنوبيين لم يرضوا عن الشمال، ولم يكن في عقلهم أن السودان وطن واحد)، وأضاف: (لم يكن هناك ما يسمى بالوحدة الجاذبة لأن المواطنة لا تُشترى، فهي شعور وانتماء، وشعور الجنوب كما ذكرت كان معادياً لنا وكانوا أحرص منا على فصله)، وزاد: (والحديث عن أننا خسرنا البترول حديث ساذج.. لأنو دا ما البترول الذي يباع به وطن أو يُشترى، غير أنه لم يكن ثروة كبيرة في مقابل الثروات التي يمتلكها السودان، نحن لم نخسر شيئاً، والمشاكل التي يعاني منها الشمال لا علاقة لها بالانفصال ولو كانت الوحدة قائمة لكان الوضع أسوأ)، ومضى قائلاً: (لم يؤثر الانفصال على السودان، بل على العكس فإن (90%) من التخلف الذي يعانيه الشمال والضنك مرده إلى دور الحركة الشعبية وتوظيفها ضد الشمال).
وأردف: (نحن نادينا بالانفصال لأنه كان أمراً طبيعياً، سيما أنه كان قائماً في العقل والوجدان، والجنوبيون كانوا يتولون أعداءنا وشعورهم نحونا معادٍ ولم يكونوا أصدقاء لنا).
أخطاء الخرطوم في تعجيل الاستفتاء!
وفي الأثناء يؤكد أستاذ العلوم السياسية “حسن الساعوري” لـ (المجهر) خطأ الحكومة في قيام الاستفتاء قبل حلحلة المشاكل والنقاط العالقة بين الحكومة والحركة، لافتاً إلى عدم تنفيذ الاتفاقية التنفيذ السليم المطلوب- على حد تعبيره- وقال: (الاتفاقية عملوها عشان السلام، لكن نتيجتها كانت حرباً في داخل الجنوب وحرباً بيننا وبينهم)، وزاد: (نيفاشا حملت خياري الوحدة والانفصال، إلا أن الجنوبيين يشهدون حرباً أهلية ما كانت لتكون موجودة لو لم يتم الانفصال، وبالتالي فإن الانفصال أدى إلى تعنت القوى السياسية الجنوبية والقبائل المسلحة، وبدلاً من أن يكون هناك جيش واحد صارت هناك جيوش، بينما خسرنا وفقدنا نحن في السودان جزءاً عزيزاً من الوطن وفقدنا ثروة بترولية تعبنا فيها تعباً شديداً).
{ تقليب بين أوراق الاتفاقية
حسب بعض المصادر الإلكترونية، فإن أطرافاً خارجية عديدة بذلت محاولات كثيرة خلال سنوات الحرب الطويلة، بما في ذلك دول الجوار والمانحون المعنيون والدول الأخرى، وطرفا النزاع، لوضع نهاية له، غير أن التعقيدات الضخمة للحرب وانعدام الإرادة السياسية حالت دون الوصول إلى حل مبكر. ليصبح في العام 1993 رؤساء دول الهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) طرفاً في المبادرة الأخيرة التي سعت إلى جمع الطرفين، وكانت هذه بداية لعملية طويلة تكللت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في 2005م.
تابعت الأمم المتحدة تحت رعاية (إيقاد) مبادرة السلام الإقليمية ودعمتها عن قرب، وقد مثّل المستشار الخاص للأمين العام السيد “محمد سحنون”، ومسؤولون كبار آخرون الأممَ المتحدة في اجتماعات قمة دول (إيقاد) وأداروا مشاورات مع الحكومات والمنظمات الإقليمية دعماً لعملية السلام، كذلك شاركوا في اجتماعات منبر شركاء (إيقاد) الذي يتكون من الدول المانحة والمنظمات التي تدعم علمية السلام تحت رعاية (إيقاد)، وتساعد المنظمة الإقليمية في تحسين قدراتها في مناحٍ عديدة، وتم توقيع الاتفاقيات الست بين الحكومة والحركة الشعبية بقيادة “قرنق”، أولها (بروتوكول مشاكوس) الذي وُقع في مشاكوس بكينيا، في 20 يوليو 2002م، حيث وافق الطرفان على إطار عام، يضع مبادئ للحكم، والعملية الانتقالية، وهياكل الحكم، بالإضافة إلى الحق في تقرير المصير لشعب جنوب السودان، كما يتناول موضوع الدين والدولة، ثم تلاه (بروتوكول الترتيبات الأمنية) بمدينة نيفاشا الكينية، في 25 سبتمبر 2003م، ثم (بروتوكول تقاسم الثروة) أيضاً بنيفاشا في 7 يناير 2004م، وفي ذات العام والمدينة تم الاتفاق والتوقيع على (بروتوكول تقاسم السلطة) في 26 مايو 2004م، ليليه بعد ذلك (بروتوكول حسم النزاع في جنوب كردفان، جبال النوبة وولاية النيل الأزرق) و(بروتوكول حسم النزاع في أبيي) الموقعان في 26 مايو 2004م، وكان لا بد أن يكتمل العمل في ثلاث اتفاقيات حتى يتسنى الوصول إلى اتفاقية للسلام الشامل، وهي اتفاقية ترتيبات وقف إطلاق النار الدائم.
الاتفاقية الثانية كانت بشأن تطبيق كافة البروتوكولات التي تم توقيعها وإبرام الاتفاق الذي تبقى بشأن ترتيبات وقف إطلاق النار الدائم، ثم الاتفاقية الثالثة المتعلقة بشأن الضمانات الدولية – الإقليمية.
في خضم تلك الاتفاقيات، توقفت المفاوضات بين الطرفين بشأن بروتوكول وقف إطلاق النار الدائم في جولة المحادثات التي عُقدت بـ(نيفاشا) في يوليو 2004م. ولم يتمكن الطرفان من الوصول إلى اتفاق بشأن عدد من المواضيع، وأهمها: إعادة نشر القوات في شرق السودان وتمويل الحركة الشعبية لتحرير السودان، وقد وافق الطرفان تحت ضغط من المجتمع الدولي، ومجلس الأمن، والأمين العام للأمم المتحدة وممثله الخاص في السودان، والاتحاد الأفريقي، و(إيقاد)، على مواصلة محادثات السلام بنيروبي في 7 أكتوبر 2004م. وتواصلت المحادثات بمناقشات على مستوى عالٍ بين النائب الأول للرئيس “علي عثمان محمد طه” ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان د. “جون قرنق”، ليصدر القائدان في 16 أكتوبر بياناً صحفياً مشتركاً أعلنا فيه أن المواضيع التي تمت مناقشتها والوصول لحل بشأنها خلال مفاوضات ترتيبات وقف إطلاق النار الدائم خلال الفترتين قبل الانتقالية والانتقالية تشمل: الوحدات المشتركة المدمجة (JIUs ) في شرق السودان، وتأسيس أسلحة خدمة لها، والتعاون فيما يتعلق بالتعامل مع المجموعات المسلحة الأخرى.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية