(أرض السمر) ترفع الحدود بين الإعداد والتصوير والمونتاج والإخراج
بقلم الفنان التشكلي: فريعابي محمد أحمد
{ بينما كنت أقلب في قنوات التلفاز عصراً، وجدت في إحداها دكتوراً مغربياً يتحدث عن فلسفة (الإنسان الكامل) عند المتصوفة، في حضرة إحدى الطرق الصوفية المغربية، وكان الرجل حاذقاً في طريقة كلامه، مالكاً ناصية معلوماته، مدركاً لما يقول، وطوف بنا بين مختلف ينابيع الفكرة، منذ العهد اليوناني، إلى ابن عربي والغزالي ….الخ، والذي شدني للمحاضرة، أن الفكرة غير غريبة علي، فقد كان ينادي ويبشر بها الأستاذ محمود محمد طه، وقد أعطاها عدة أسماء- الإنسان الكامل -الحقيقة المحمدية -الأصيل -المسيح المحمدي-آدم المحمدي.
ومن صفاته السمرة، لأن آدم من الأدمة، والأدمة تشير إلى اللون، يعني أن الإنسان الكامل أسمر اللون، يعني أنه سوداني؛ هذا ما انتهى إليه الأستاذ محمود محمد طه، وانتهت المحاضرة، وانتهت علاقتي بتلك المحطة التلفزيونية .
{ وفي هزيع نفس اليوم، أجد نفسي أمام محطة سودانية تبث حلقة يتحدث فيها صديقي الدكتور محمد الفاتح أبو عاقلة، بتلك الفخامة التي عهدته بها، ويا للمصادفة- وقد كانت تسمى أرض السمر .
وما كنت أظن أن سيف حسن النوبي القح، ومجموعته، يرفعون الحدود بين الإعداد والتصوير والمونتاج والإخراج، إلى هذه المكانة المترعة بالإبداع والتطور، وحين اجتمع أبو عاقله المشبع بمادة التراث، المتسربة في مساماته، تحيط بجزيئاته وتجتاحها مانعةً تسوس ذاكرته، وهو يعطيها لونا وطعماً ورائحة، وينقلها طازجة حية منتعشة، وسيف حسن حاول العودة إلى الجذور والطبيعة، هارباً من ضجيج المدينة وزخمها، فاستحال لقاؤهما إبداعاً محضاً، خاصة أن سيف حسن يعالج المشهد كيميائياً، ويبرجه بزاوية بصرية غاية في الاحترافية والإبهار..
{ فالمصور حين استخدم العدسة الواسعة، في مشهد درامي بين محمد الفاتح ومحدثه، جعل كلمات الخبير أبوعاقلة، تتقافز أمامه في سيمفونية عجيبة مدهشة، كأن هذا الفضاء الذي كونته الرؤية البصرية للمصور، باستخدام تلك العدسات، والإغراء الفراغي الذي تركته، قد جعل المسرح متاحاً لنقل المشهد مشبعاً بطبيعة خلابة وبراقة، وقد توحد المصور مع الطبيعة الغناء والواقع المدهش، لله دره !!
أما المونتير فقد شكل حضوراً طاغياً حين انتقاله من الكاميرا الطائرة الى الثابته أو العكس
{ أظن أن هذه الحلقة، قد مثلت القمة لسيف حسن، في مسيرته التوثيقية، ولو حافظ على هذا العلو، لأصبح إحدى أيقونات الإبداع السوداني، فإن كان المرحوم شبرين قد ملك ناصية الحرف العربي، واستخداماته، وحالاته، مما جعل (بوص) شبرين لا ينافس، ولا ينتقد، وكذلك الصلحي، وأحمد عبد العال وآخرون، يعالجون اللون (بلطشة) فرشاة لا تبارى، يمكن أن تكون رؤية سيف في هذا المقام …