{ لم يكن الشعر يوماً ترفاً.. ولكنه مثلما قال الراحل “حميد”: (القصيدة مثل الشوكة التي تطعن المزارع، ورجل المزارع وطوال ما هو مزارع يستحيل أن تغيب عنها الشوكة، وطالما أنت خلقك الله شاعراً يستحيل أن تغيب عنك القصيدة وبمثلما ذاك المزارع طعنته شوكة وضايقته مجاري الري فهو يتجاهل ويسعى لتنظيم مسألة الري ويضغط على الشوكة ويتحملها إلى أن يجد له وقتاً لاستخراجها وهو يستمتع بهذا الأمر، ولكن بعد ذلك هناك ما يذوب في اللحم الحي، القصائد تبدو بهذا الواقع وأية قصيدة جادة كتبت لها ما تريد أن تقوله).
{ وتؤشر الصورة الذهنية للشاعر التي رسمها “حميد” لما يجب أن يكون الشاعر المتحدث بأحلام مجتمعه وأوجاعه وربما قليل جداً من آلامه الذاتية.
{ فالشعر هو الآن من أقرب أشكال الإبداع التي تنافس الغناء في نجوميته المطلقة.
{ وفرضت هذه النجومية المؤثرة للشعر أن يكون حاضراً بشدة عبر عدد كبير من القنوات الفضائية بمختلف مسمياتها..
{ وكان طبيعياً أن يكون لبلد يحتفي بالشعر والشعراء بروز نجوم أنجبتهم هذه الحركة النشطة لفن الشعر..
{ ولكن…
{ مثلما هو الحال أيضاً في الغناء، فإن نجومية الشعر الآن تمنح فقط لمن يتماهى بما يقدمه من شعر (انزلاقاً) لكل ما هو سائد..
{ أو ربما لمن هو قادر على السباحة مع (معجم) الكلمات (ذوات السقف المحدود) والخيال الشعري المتواضع.. ولا يخرج من تلك (الناموسية) الضيقة التي فرضت على المجتمع الشعري الآن.
{ وتقذف الفضائيات كل يوم بشعراء يتداولون ذات العبارات.. وذات الجمل الشعرية.. بل يكاد الإحساس يتطابق كلياً مع أغلب الذين فرضتهم الآلة الإعلامية الآن من شعراء..
{ وبرامج مثل (ريحة البن).. و(قهوتنا) و(نمة بدلنا) هي في الحقيقة إعادة تدوير لشعراء غير قادرين على (كسر المسافة الافتراضية ما بين الغناء الذاتي والغناء للمجتمع والقضايا الوطنية التي يمتلئ بها جسد الوطن).
{ وتتصاعد في تلك الآلة الإعلامية ما يظنونه شعراً هو في الحقيقة عبارة عن (مخدر لذيذ) فيصعد إلى الواجهة شعراء ينتمون لذات مدرسة (اتقهوجك) و(اتقريفك).. وأشعار تحتشد بالعبارات المبهمة التي يحتاج بعضها إلى معجم (شعري) لتفسيرها.. وبالتعبير عن الذات والحماسة.
{ فكان طبيعياً أن يفقد الشعر الآن كثيراً من دهشته ورمزيته.. وقدرته على التعبير الحر عن قضايا الوطن بلا رقابة ولا خطوط حمراء.
{ فيكون نجوم الشعر لدينا “بشرى البطانة” و”محمود الجيلي” و”ود مسيخ” و”أحمد البلال” و”أمجد حمزة”.. ويصبحون الآن هم الأعلى صوتاً والأكثر وجوداً وتأثيراً.
{ وتُقبر بتعمد أصوات أخرى خرجت من نسل “حميد” و”الدوش” و”محجوب شريف”.. فلا مكان لها مع هذا الهيجان الذي يملأ الساحة الشعرية بضجيجه.. وصخبه الفارغ.
{ تتراجع إلى الخلف الأصوات الشعرية الحقيقية التي لديها إمكانية التعبير عن القضايا الوطنية بقوة وبلا تنازلات.. مثل “عثمان البشرى”.. “إيمان آدم”.. “عاصم الحزين”.. “عبد الله الزين”.. “خالد عباس”.. “عاطف خيري”.. و”الصادق الرضي”.
{ ولأن هذه الأصوات هي في الحقيقة ضد الضعف والانكسار والمواقف (الرمادية) كان طبيعياً أن لا يكونوا جزءاً من هذا الانحدار العام في الأغاني والواقع..
{ و(ثباتهم) يمنعهم من (التمرجح) مع (المواقف المهتزة).