خربشات
(1)
لم تعرف الساحة الوطنية سياسياً في زهد ونقاء وبساطة “الشريف زين العابدين الهندي” ولم تعرف الساحة الأدبية وميادين الشعر والأدب رجلاً بعفة “الشريف زين العابدين”.. يتكئ على إرث سياسي ومخزون صوفي.. وثراء معرفي.. وبيت موصول بعمق الصوفية.. يختلف الناس حول “زين العابدين الهندي” السياسي لكنهم لا يشتجرون حول زهده ونقائه وبساطته.. في مذكرات “زين العابدين محمد عبد القادر” التي جاءت تحت عنوان مايو سنوات الخصب والجفاف.. كشف “زين العابدين” (المغطى) والمستور والمسكوت عنه في سيرة السياسيين المعارضين لمايو.. والسائرين في دوريها المتشعبة وعلى ذكر “الشريف زين العابدين” قال “الزين” في كتابه الذي تعرض للتنقيح وحذف بعض الفقرات في الطبعة التي تعرض الآن في الأسواق خلافاً لما ورد في الطبعة الأولى إنه أي “الزين” كان كثيراً ما يلتقي بعض من بعض زملاء والده.. وأصدقائه ويطلبون منه التوسل لـ”جعفر نميري” لإطلاق سراح “الشريف زين العابدين” الذي يقيم في سجن كوبر في ذلك الوقت نزيلاً سياسياً.. وفي أحد أيام شهر أبريل كان “زين العابدين” وصديقه “جعفر نميري” يسهرون الليل في منزل صديق لهم بأم درمان وفي طريق العودة للخرطوم.. قال الرئيس “جعفر نميري” لـ”زين العابدين” يجب أن ننهض من النوم في التاسعة صباح (الجمعة) ونتناول وجبة الإفطار في حي كوبر.. وهنا فكر “زين العابدين” في كيفية إطلاق سراح “الشريف” من السجن.. في الطريق لحي كوبر طلب من الرئيس “نميري” زيارة السجن.. وإطلاق سراح “الشريف زين العابدين الهندي”.. لم يرفض “جعفر نميري” تلبية طلب صديقه “زين العابدين” الذي كان يقود السيارة اللاندروفر و”نميري” جالساً بجواره مثلما يفعل الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” اليوم مع الرئيس “البشير” في بوابة السجن اضطراب العسكر.. ودخل “جعفر نميري” لمكتب الضابط المناوب ووجده يرتدي ملابساً مدنية فزجره وعنفه، وطلب به كشف باسم المعتقلات السياسيين.. وعندما وضع الضابط الكشف أمام “جعفر نميري” رحمه الله سأل “زين العابدين” (زول اسمو شنو)؟ فأجابه “الشريف زين العابدين”.. أخذ “جعفر نميري” القلم وقرأ الكشف حتى وجد اسمه فكتب أمامه يطلق سراحه ولم يكتف بذلك بل أشار بقلمه لإطلاق سراح ثمانية وعشرين معتقلاً آخرين لا يعرف “نميري” أسباب اعتقالهم ولا خطرهم على مايو.. لكنه قال لـ”زين العابدين” معقول أنا الرئيس نأتي ونطلق سراح شخص واحد ونذهب.. وعلى ذكر إطلاق سراح السجناء يقول “صموئيل أرو بول” نائب رئيس الوزراء في الفترة الانتقالية إن “جعفر نميري” حينما أطلق سراحه أمر بطائرة عسكرية تقله لمسقط رأسه.. مدينة واو ومنها بالعربة اللاندروفر حتى مسقط رأسه مدينة رمبيك، أما قصة “جعفر نميري” والأب ” عباس غبوش” فتلك قصة أخرى.. لكن المهم ما كتبه “زين العابدين محمد عبد القادر” يكشف جوانب أخرى في شخصية “جعفر نميري” وسموه وأخلاقه في القضايا الإنسانية العميقة.
(2)
لم يطيب لـ”الشريف زين العابدين” سنوات المعارضة في أرض الكنانة.. وضاق ذرعاً بوصايا وإملاءات المخابرات المصرية التي كانت تحتضن المعارضة الشمالية.. وتمنحها فتات العيش غير الكريم.. والمخابرات المصرية في سنوات “حسني مبارك” كانت شيئاً مثيراً للرعب في مصر، ولكن”الشريف زين العابدين” الذي أول من يشعر بمأزق “الصادق المهدي” في الخرطوم وشم رائحة الانقلاب مبكراً.. ونعى الديمقراطية وهي حية.. وأهال عليها التراب بيديه وهو وزيراً للخارجية.. ونائباً لرئيس الوزراء في الحكومة الائتلافية.. شعر “الشريف” بأن وجوده في القاهرة وأسمرا والرياض وطرابلس ينتقص من حريته الشخصية ويجعله (مخيراً) في تنظيم المخابرات المصرية.. وألعوبة في أيدي الأجانب.. فكر ودبر وقدر الأضرار الوطنية والأضرار الشخصية لبقائه في المعارضة بالخارج.. فقرر أن يعود مشياً على الأقدام قبل أن يعود محمولاً على آلة حدباء.. رغم ما قاله عن البلاد بعد أن حكمها الإنقاذيون.
فلذاتك مبعثرة في البلاد مأجورة
نبني على الرمال أحلامها ثم قصورا
خلوك سايبة في أيدي الطغاة مأسورة
شان ما يسلموك الحلبي روب في كورة
ويقسم “الشريف زين العابدين الهندي” بالعودة وفك أسر البلاد والمساهمة في عودة الوعي.. والديمقراطية.. وانقشاع ظلام الشمولية وهو يقول:
حالفين بيك قسم غالي وعزيزي ويمين
ما نضوق راحة ولا نشوف زوجة ولا ولدين
وما ندفن رؤوسنا على الرمال خايفين
حتى نوقي من أشلانا أعلامك على القصرين
وحتى نسوي للقصفوك مقبرتين
ذي ما صنعا تارا على الألف ألفين
وحتى تكسر السد وينقسم نصفين
ويكون عيدنا الكبير في مقر النيلين.
(3)
أنهى “الشريف زين العابدين” علاقته التنظيمية بمعارضة الخارجية وأبقى على خيوط رفيعة من التلاقي الإنساني مع رفقاء الدرب.. يخون “الشريف” رفقاء النضال.. ولم ينكر وطنيتهم.. ولم يلهث وراء السلطة.. وفي هدوء وقع اتفاق العودة.. ولعب الصحافي “جمال عنقرة” دوراً كبيراً في نسج خيوط التلاقي بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والإنقاذ بوجهها العسكري وأبعادها المدنية.. استغل “جمال عنقرة” علاقته التنظيمية القديمة مع قادة الحركة الإسلامية وكان “الترابي” من القلة الذين يحفظون لـ”جمال عنقرة” فضل سبق.. وفضل جهد في سنوات مايو.. لذلك ظل “جمال عنقرة” محل ثقة “الترابي” في الشعبي وما بعد الشعبي.. وعاد “الشريف زين العابدين” ثائراً زاهداً.. يمشي مرفوع الرأس.. لم (يقبض) مليماً من خزائن الإنقاذ.. ولم يسعى لمنصب سياسي أو تنفيذي.. وفي يوم عودته كانت الإنقاذ تتمنى أن يطلب “الشريف” ما تشتهي نفسه.. وما في نفس “الشريف” فنجان قهوة بجنينته في حلة كوكو.. ولمة أصدقاء.. وسيجارة برنجي ينفث دخانها ويتأمل في أم درمان وبحري.. ويعود لبيته في بري “الشريف” في هجعة الليل يترنم بأنشودة الهجرة والاغتراب ويطوف على السودان الذي يعرفه “الشريف” أكثر من كل أدعياء المعرف..
من مليط مكربت شافي دار الريح
نازل بارا أم فتنة بتسر وتريح
وأتياسر على التيارة صوتاً يصيح
ونوخ تلقي في السهل الكبير وفسيح
ومن تلقى أمبرم شايل جبال النوبة
عامر قلبوا بي برشم عريس الحوبة
جلجال والأحيمر نارهم يتدفونا
وين مجذوب وشامبي والحارة بتسلوبا.
(4)
كان “الشريف” يقرأ في دفتر سنوات المعارضة الأولى والجبهة الوطنية.. وشهداء انقلاب “حسن حسين عثمان”.. وأحداث يوليو التي أطلق عليها (المرتزقة) وتطوف في مخيلة “الشريف” كل مظاهر الأحزان والدموع ولكنه يرفض أن يصبح وزيراً.. ويترك لـ”جلال الدقير” ود.”أحمد بلال” وغيرهم حصاد ما زرعه “الشريف” ويمضي من الدنيا طاهراً عفيفاً شريفاً نقياً أبيض القلب مثل ثوب الدبلان اللهم أرحم “الشريف زين العابدين” في العشرة الأواخر من رمضان يطل علينا والسودان في مسغبة وضيق حال.. وسوء مآل..
وكل جمعة والجميع بخير.