الديوان

رحلة صناعة الطوب.. من حر (الكماين) إلى صدر (المداين)

الليلة الليلة أذاي الليلة...وحرق بنار الكماين ديلا

تقرير: محمد إبراهيم
بمحاذاة النيل الأزرق بالجريف غرب تتراءى خضرة الحقول بامتدادها الواسع، وتحتل الطبيعة بسطوتها -أنى تلفتت عيناك- كانت تلك المنطقة فيما مضى قبلة سياحية بالغة (الجمال) يقصدها المصطافون وطالبو الاستجمام، من شتى أنحاء العاصمة، وخاصة أيام الجمعة والعطلات الرسمية، وكانت (جناين الجريف) تشتهر بظلها الظليل ومياهها المتدفقة وإنتاجها الوفير من فاكهة (المانجو) و(الجوافة) و(الليمون) و(البلح) بأنواعه المختلفة، إلا أن تراكم الطمي في المجرى المائي الصغير والضيق الذي كان يمر بتلك (الجناين) والحدائق السابلة سد كل المنافذ المكونة لذلك المجرى المائي النيل.
آثر النيل تغيير مساره إلى جهة الشرق فانعكس ذلك في تغيير أمزجة المزارعين ومالكي الأراضي في تلك المنطقة.. فبدلوا أنواع زراعتهم كما بدل النيل مزاجه ومساره… فحلت زراعة محاصيل نقدية سريعة الربح وقليلة الجهد مثل (اللوبيا) و(الملوخية) و(الباذنجان) و(البامية) محل أشجار الجوافة والمانجو، وانزوت تبعاً لذلك المساحة الظليلة.. فيما قبعت المساحة الشاسعة التي كانت فيما مضى مجرد (مجرى مائي) إلى الأسفل وأصبحت نهباً لأيدي منتجي (الطوب) بأنواعه المختلفة، وانتشرت الحفر في كل الأماكن التي كان يشغلها ذلك المجرى، وازدهرت مكانه صناعة وتجارة الطوب بشكل أوسع مما كانت عليه قبل ذلك.
(1)
ما أن تقودك عيناك حتى تلحظ (كماين) (الطوب) تحتل كل تلك الأجزاء والأبخرة تتصاعد منها كيفما اتفق، ويقوم عمال (الكماين) بممارسة نشاطهم (الدؤوب)، لا يأبهون لسخونة الأجواء أو رطوبتها، فردنا معهم (الأوراق) والأقلام والكاميرا لتدوين وتوثيق رحلة (صناعة) و(إنتاج) الطوب منذ أن كان طيناً لازبا إلى أن يصبح جداراً أو حائطاً.. أو حتى سقفاً.
(آدم إسماعيل)، رجل في نحو الخامسة والأربعين من عمره يتمتع ببنية جسدية قوية، تميزه ابتسامة واسعة رغم الرهق والتعب اللذين يبدوان على ملامحه. أحرق (إسماعيل) ما يقرب من خمسة عشر عاماً من عمره في صناعة الطوب، بعد أن قدم من موطنه الأصل؛ السوكي.. يقول عن ابتداء صناعة الطوب:
البداية تكون بما يعرف بـ(العجنة) وهي الأساس الذي يشكل صناعة الطوب.. وتتكون العجنة من (روث البقر) أو ما يعرف شعبياً (بالزبالة) التي تخلط بطين (البلبطي) وهو الطمي الناشف الذي بقي في مكانه بعد (الدميرة)، ويخلط كل ذلك (بالزافوت) التي تعني رملة شديدة النعومة يتم استخدامها لتقليل لزوجة (البلبطي) ويترك كل ذلك لمدة ثلاثة أيام للتخمير.. يحمله بعد ذلك اثنان من العمال يدعون بـ(الطبلجية) لوضعه في مبنى طوبي صغير يرتفع عن الأرض لما يقرب المتر ونصف، يسمى (بالترابيزة) وفي منتصف (الترابيزة) يقف الأسطى الذي يقوم بهندسة وتعبئة (القالب) الطوبي بوضعه في قالب يصنع في العادة من الحديد وفي بعض الأحيان من الخشب، وهناك عامل آخر يدعى (الدباشي) يحمل الطوب الأخضر تمهيداً لنشرة على الأرض التي يفرش تحتها رمال من (الزافوت) ليترك لمدة أربعة أيام حتى يجف، ويقوم (الدباش) بعد ذلك برص الطوب في شكل مربعات متقابلة بعضها فوق بعض للتأكد من جفافه، يبدأ بعد ذلك النفير لكل العمال لحمل الطوب (الأخضر) ووضعه في كمينة ضخمة تسع الواحدة منها (مائة ألف طوبة).
(2)
الكمينة عمل هندسي متكامل ورغم بساطته إلا أنها تحوي تخطيطاً فطرياً متقدماً.. ففي أساسها يتم رص الطوب على طريقة (العقد) وهي طريقة تتيح وجود ممرات تمتد من بداية الكمينة في الجنوب وحتى نهايتها شمالاً، وتعرف تلك الممرات بالعيون التي يتم حشوها بالحطب الناشف، وفي وسط العيون توضع عيدان كبيرة من حطب الأشجار الناشفة لضمان توزيع النيران على المناطق العليا، فيما تتكفل (العيون) بمهمة توزيع النيران على المناطق السفلى من الكمينة.. ويبدأ بعد ذلك إشعال النيران في الكمينة بحسب اتجاه الرياح، فإذا كانت الرياح جنوبية يتم إشعالها من جهة الجنوب، والعكس إذا كانت شمالية.
(3)
تستمر النيران مشتعلة داخل الكمينة لمدة ثلاثة أيام حتى تصل إلى الاتجاه الآخر من الكمينة.. ثم يعاد إشعال النيران مرة أخرى من جهة المنطقة التي انتهت إليها حتى يتسنى وصول النيران إلى كافة انحاء الكمين وللتأكد من عدم وجود الطوب الأصفر الذي يعد أحد أسوأ أنواع (الطوب). و(العقاد) هو الأسطى الذى يقوم بالإشراف والمتابعة وإشعال النيران ويمثل الإدارة الهندسية المقيمة بـ(الكمينة).
تترك النيران لمدة أربعة أيام حتى يتم التأكد من وصولها إلى كل أجزاء (الكمينة)، لتبدأ بعد ذلك عملية إزالة (القشرة) وهي طبقة من الطين تغطي (الطوب) قبل إشعال النيران، ثم فرز الطوب بحسب أنواعه الثلاثة وهي بالترتيب بحسب جودته.
(4)
النوع الأول: الطوب الأحمر وهو أجود الأنواع، ويستخدم في عمليات (البناء) الأساسية للبيوت (وتقفيل) المباني المسلحة، ويباع بعد ذلك إلى تجار الطوب الذين يأخذونه إلى أسواق الصحافة والكلاكلة وأم درمان وسعر الألف طوبة يتراوح بين (60- 90) جنيها بحسب حاجة السوق إليه.
النوع الثاني: هو الطوب (البلحي) الذي يقل في جودته عن (الأحمر) بسبب وصول قدر أقل من النيران إليه، وهو الذي يوجد في الأطراف الوسطية من (الكمينة)، ويتراوح سعر الألف طوبة منه ما بين 45- 50 جنيها..
أما النوع الثالث فهو الطوب الأصفر: وهو اردأ أنواع الطوب لهشاشته وسهولة تهشمه، وغالباً ما يكون في أطراف الكمينة ولا تصل إليه النيران بسهولة.
(5)
ويضيف آدم أن أكثر الأنواع المرغوبة في السوق هو الطوب الأحمر رغم ارتفاع سعره لجودته وقوة تحمله في الحمل والإنزال والبناء.. ويعد موسم (الخريف) هو العدو الأزلي للعاملين في (الكمائن) وهو الموسم الذي يتوقف فيه إنتاج (الطوب) مما يجعل أسعاره ترتفع إلى الضعف.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية