{ أصبح من العادي أن نتفاجأ كل صباح بأزمة اسوأ من التي سبقتها وارى أن من أبرز الأسباب التي ادت إلى تفاقم أزماتنا الاقتصادية التي ظلت تنتقل بالحكومة من (حرج إلى زنقة) هو التضييق والقسوة على المواطنين البسطاء الكادحين (الغبش التعابى) الذين عادة ما يستيقظون في أواخر الليل ويخرجون من بيوتهم في الساعات الأولى من الصباح، يسيرون في الظلمات قاصدين بيوت الله لأداء فريضة الفجر ثم يتوكلون على الحي القيوم الفتاح العليم الرزاق الكريم، بحثاً عن الكسب الحلال وتوفير اللقمة الشريفة لأبنائهم وتجنيب شوية (مصيرفات) تقيهم شر السؤال ومد الأيدي في اليوم الأسود.
{ هؤلاء الغلابى غالبيتهم (سلعتهم الضراع والعرق البخر)، منهم من يبيع الخضار ومنهم من يوزع الرغيف بالعجلة وبالأرجل ومنهم يوزع التلج ومن يوزع الفحم وهناك من يحمل طبلية على أكتافه، بالإضافة إلى ستات الشاي وغيرهم من أصحاب المهن الهامشية هؤلاء التعابى المسحوقون عربات (الكشة) صارت لهم بالمرصاد لأرزاقهم بدعاوى زائفة هي (التنظيم)، والواقع يؤكد أن الخرطوم عموم غرقانة في بحور الفوضى والعشوائية ولم يفلح كل الولاة والمعتمدين المتعاقبين في الوصول بها للعاصمة الحضارية أو حتى قريباً منها.
{ خدمتني الصُدفة أن أشاهد بأم عيني ما يفعله (ناس الكشة) في خلق الله من أفاعيل (لا ترضي الله).
{ عم “عبد الرحمن” يعمل فراناً في أحد المخابز بوسط الخرطوم لأنه يعول أسرة كبيرة سعى لزيادة دخله في هذا الزمن العصيب ببيع الحليب و(شاي اللبن) ولأنه رجل يخاف الله (نظيف من الداخل والخارج) كل شيء حوله نظيف بل وفي قمة النظافة لا يضيف للحليب ولا نقطة موية، وحتى شاي اللبن عبارة عن (حليب صافي مضاف له حب شاي فقط).
{ “عبد الرحمن” التقي النقي يبدأ بعد صلاة الصبح مباشرة لأن معظم زبائنه من المصلين بمسجد الخرطوم الكبير ومسجد فاروق العتيق والفترة التي يحضر فيها الحليب والشاي الساخن وحتى الانتهاء من بيع آخر كباية لا تتجاوز الساعة من بعد صلاة الفجر وآخر ناس يشربوا عنده الشاي هم عمار حلقة تلاوة قرآن الفجر المشهود، ولكن للأسف الشديد (ناس الكشة) ظلوا يترددون على هذا الرجل الغلبان باكراً وباستمرار لا للاستمتاع بشرب الشاي باللبن أو الحليب لكن للاستمتاع بأخذ كل أغراضه بما فيها حلة (الحليب) وكفتيرة شاي اللبن ورفعها داخل دفار الكشة في هجمة مباغتة أشبه بغارات عصابات النهب المسلح، وبعد تجريده من كل شيء، ويمضون لهجمة أخرى ويتركونه هو وزبائنه المصلون في حيرة من أمرهم وعلمت بأن هذه الكشات أو الهجمات كثيراً ما تأتيه أثناء ذهابه لأداء صلاة الصبح، وهذا يدل بأن العاملين في هذه (الكشات) لا علاقة لهم بالصلاة ولا يحترمون أوقات العبادة، وهمهم كله في تحقيق أكبر قدر من الكشات والهجمات.
{ أيضاً في واحدة من الهجمات رأيتهم استوقفوا شاباً وانزلوه من عجلته التي يوزع بها رغيف العيش للمطاعم والكافتيريات وأخذوها منه بعنف رفعوها في دفار الكشة وتركوه متحسراً .
{ أما “حليمة” ست الشاي قبل أن تذهب لتحضر أغراض عملها تركت كيس صغير به (رطلين سكر وظرف “شاي حب” وصُرة لبن بدرة) تركتهم بالقرب من كشك جرائد وعندما عادت علمت من الحاضرين بأن ناس الكشه شالوا الكيس بحجة محتوياته تخص ست شاي .!!
{ بالله عليكم واحد مثل العم “عبد الرحمن” الغلبان أو واحد مثل الشاب موزع الرغيف المقهور أو احدة مثل “حليمة” ستات الشاي الممغوصة، إذا رفعوا أيديهم بالدعاء في ذلك الوقت من أوقات الاستجابة هل سيردهم الرحمن الرحيم؟!
{ وتخيل بماذا سيدعوا هؤلاء على من حطم مصادر رزقهم؟