أخبار

وكان يوماً بلا صباح (3)

بدأت أسرد في مقالي السابق أسماء الشهداء الذين كانوا مع الشهيد في تلك الطائرة (طائرة الأنتينوف 26)، التي حمولتها لا تتعدى سبعة وثلاثين شخصاً، وقد أقلعت وهي تحمل (57) شخصاً – أي بزيادة عشرين شخصاً عن حمولتها. ولأن خبر استشهاد “الزبير” كان فاجعاً وطاغياً، فقد أحدث كسوفاً وخسوفاً معاً، مما غطى على بقية الرتل المبارك من الشهداء، فسأحاول أن أقف عند بعضهم.
وربما سنجد في استعراض هذه الأسماء بعض سر جمع بينهم وحدّد لحظة استشهادهم.. فتلك صحبة منتقاة.. التقوا في الدنيا ليغادروا معاً لآخرة أرحب وأكثر ظلاً ومثابة.. جدير أن نلحظ أن ثلاثة من الشهداء انضموا للوفد في آخر اللحظات.. منهم الشهيد “موسى سيد أحمد” الذي عاد من العمرة يوم الاثنين 8 فبراير.. و”أروك تونج” الذي انضم لوفد الشهيد في يوم الثلاثاء، وأخيراً الشهيد “عبد السلام سليمان” الذي له قصة سأرويها على لسان رُواتها.. ثم إن من الشهداء أيضاً من كان مع الشهيد في عمرة رمضان وهم: “الفاتح نورين” (مراسم)، العميد “جمال عبد المجيد فقيري” والمقدم “فتح الرحمن الصادق”.
دعني أقصّ كيف يتم اختيار الشهداء! فالأمر لا يخضع مطلقاً لصدفة، وإنما هو اجتباء واصطفاء واتخاذ.. الأمر يسير بكيفية تؤكد هذا.. قصة “عبد السلام سليمان” تثير في النفس شجون.. فالرجل من جنوب الشمال.. جدّه “سعد” ملك الجعليين.. وهو خريج جامعة الخرطوم كلية الآداب تخصص لغة إنجليزية.. المدير التنفيذي لمنظمة الدعوة الإسلامية، نذر حياته لخدمة الدعوة.. وتحديداً في جنوب كردفان.. مؤسس الخلاوي بجنوب السودان.. أحب الجنوب واستشهد فيه ودُفن هناك.
يروي “حسن ضحوي” قصة التحاق “عبد السلام” بالشهادة فيقول: (يوم 29/2/1998م، في إفطار جماعي بمنزلي طلب الفريق “الزبير” من “عبد السلام” أن يرافقه في رحلته ومنّاه بأنها ستكون “سمحة” حسب تعبيره، فرد “عبد السلام” بأنه ضمن الوفد المسافر لجوبا، وتم تعيين مدير مجلس تنسيق المنظمات التطوعية (إسكوفا) “عبد العاطي عبد الخير” للسفر مع الشهيد.. يوم الثلاثاء عند منتصف الليل أبلغ مدير (إسكوفا) زميله مدير منظمة البر الدولية “سراج الدين عبد الغفار” للسفر مع الشهيد بدلاً عنه نسبة لتعرضه لحادث حركة منتصف الليل.. واعتذر أيضاً مدير منظمة البر لمقدم ضيوف من الخارج لمنظمته.. وذهب مدير (إسكوفا) للأستاذ “عبد السلام سليمان” فأبلغه بظرفيهما فما كان من “عبد السلام” إلا أن وافق على الذهاب مع الشهيد بدلاً عنهما.. بعدها اتصل “عبد السلام” عبر الموبايل عقب صلاة الفجر بـ”بشير محمد بشير”.. وتم ذلك! والتحق بالركب ليكون مع الشهداء شهيداً رفيقاً).. هكذا تتعدد الأسباب وسبب الشهادة واحد رغم تعدد الاعتذارات!!
ثم إن من بين الشهداء ذلك الشاب الوديع من الشمالية.. المهندس خريج جامعة الخرطوم.. وأحد الكوادر التي كانت مدّخرة لمثل أيامنا هذه.. جاء من العمرة نظيفاً حنيفاً متجرّداً، فلاقته الشهادة مفردة كل صدرها ويديها تضمّه لرفقة شهداء في فراديس الجنان.. تاركاً طفلة وليدة.. (ليتني رأيتها اليوم وقد تعلّمت التلاوة).
ثم اللواء شرطة ضرار “عبد الله عباس” أحد قادة الشرطة الشرفاء ذاهباً ليسهم في ضبط الأمن والنظام، فلاقى ربه راضياً مرضياً.
ثم “الفاتح نورين”، صاحب خبرة في المراسم منذ زمان “جعفر” العتيد.. جاء للإنقاذ ليكون مسؤولاً عن مراسم النائب الأول.. وكان مع الشهيد في تلك العمرة الأخيرة!
ثم اللواء “طه الماحي”.. أحد قادة المدرعات الميامين.. مجاهد صلب وقائد محنّك وداعية مرموق.. خلّد رفاقه اسمه بمعسكر يحمل اسمه ولقبه الشهيد.
ثم العميد “جمال عبد المجيد فقيري” مدير مكتب الشهيد.. وأمين سره ومؤتمن أسراره.. كان معه دوماً حتى في تلك العمرة المشهودة الخاتمة.
ثم المقدم “فتح الرحمن الصادق” قائد الحرس الذي أنقذ بعضاً مِن مَن في الطائرة.. ثم قضى ليكون مع “الزبير” حتى في المثوى الأخير.. وكان أفراد الحرس جزءاً من أسرة “الزبير”.. وكذلك كانوا أوفياء حتى اللحظة الأخيرة.. حيث صحبوه في الشهادة أيضاً.
“عثمان إبراهيم برعي”.. “صمويل فشود عبد الرحمن”.. وقادهم أيضاً المقدم “عبد الله بابكر محمد” الفارس المقدام.
ثم شهداء الإعلام.. “هاشم الحاج” و”الهادي سيد أحمد” عليهما الرحمة والسلام.
هذه القائمة الذهبية لشهداء الناصر..
أنا وحين أقلب الأوراق تبقى هذه الأوراق بمثابة تميمة.. تذكّرنا بالذين مضوا.. والذين – ربما وبفعل الزمن – نغفل عن تذكرهم ونحن نتذكر خنق الدولار لرقابنا.. فلا أقل من أن نكتب عنهم شيئاً ولو سطراً يقرع ناقوساً يوقظ نائماً أو ناسياً أو مشغولاً ولو بـ….
يوم نشرت الحلقة الأولى من (وكان يوماً بلا صباح) والناس يقرأون المقال، إذا بالموبايل يبلغهم أن طائرة عسكرية سقطت بغرب أم درمان وفيها ثلة مقدرة من أبناء قواتنا المسلحة الأخيار.. ثلة تعني فقداً فادحاً وعريض الألم.. ثلة ممن ندخرهم ليوم يُعزّ فيه السودان.
سقطت الطائرة وسقطت قلوبنا في أدنى البطن.. أصبح الأمر واضحاً ومخيفاً حتى إني لأسمي الراكب: النعش الطائر!! صحيح ونعم لكل أجل كتاب.. وأعلم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.. وأعلم أن الحق قال: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ).
نعم.. نعلم كل ذاك، ولكن لماذا يلحق باسم الطائرات الروسية هذا الخراب.. وحين تسقط طائرة لا يثير ذلك فينا الاندهاش؟!
ستقولون وبملء الفم.. الحصار الاقتصادي.. وتسلّمون أنه قدر مقدور مثل الموت.. لا نجد فيه حرجاً ونسلّم تسليماً ونذعن إذعاناً أنه قدر مقدور.. والذي حدث هو السبب.. ماذا لو نحاول حصار ذلك السبب؟!
تراني أبتعد عن ذلك اليوم العادي من ملابس الصباح.. أعود.. ومعذرة فقد كسر خاطري ذلك الذي حدث بغرب أم درمان.. وأفسح مساحة لحديث “شيخ حسن” رئيس أركان الثبات يومها، فقد قال في عرس الشهيد (بالمناسبة هو أطلق هذا الاسم وشرّفه بالحديث في كل عرس شهيد. ثم قال قولاً آخر فيه!) نقفل القوس أيضاً والكلام!
قال: (لا أريد أن أهيّج الشعور، ولكن أريد أن أتأمل عبرة في هذا الفقد الذي نجتمع اليوم لنُحيّي ذكراه.. فالناس يموتون في كل يوم وغالبهم وسوادهم الأعظم يصبحون نسياً منسياً، ولكن بعض الناس يكون في الملأ الأعلى مذكورين أبد التاريخ.. ذكراهم كالصدقة الجارية، ليكتب الله لهم بها بركات وأجراً مستمراً إلى يوم القيامة ويذكرهم الله في الملأ الأعلى).
(القيمة الثابتة هنا أن المعاني الرشيدة التي تجعل هذه الأمة، أمة الإسلام، مختلفة عن سائر الأمم هي أنها أمة موصولة بالسماء، ولم يكن تدينها تديناً عقلياً محضاً، وإنما المحك هنا في العمل بهذه المعرفة العظيمة وتنزيلها، وليس ثمة معنى أشقّ على النفس في التنزيل إلى أرض الواقع مثل معنى الشهادة في سبيل الله.. فـ”الزبير” كان رجلاً أمة، كان سخياً في كل شيء كريماً وسمحاً ومنذوراً بالفداء).
(“الزبير”.. تعلمون أنه قادم من الشمال، ورأيتموه كيف انطلق من أن تحتكره منطقة أو عصبية لإقليم.. وظلّ سوّاحاً في السودان، يطير من طرف إلى طرف.. كلها هموم السودان.. إذا اخترنا له نظاما نسميه اتحاداً بين أقاليم السودان وولاياته، كان هو الذي أحياه، لا على نصوص الورق ولكنها حياة تتحرك من المركز إلى كل إقليم.. إلى كل همّ.. يطير مرات في الشهر إلى أطراف البلاد ولا يبالي.. أينما ظهر همّ فزع إليه “الزبير” هناك يحاول أن يعالجه، ولذلك فأهل السودان عامة لن ينسوه أبداً.. لن يذكره أهله في بلده ولا في حيّه ولا زمرته من الضباط، ولكنه في كل السودان..)
ثم يقول الشيخ:
(كان حازماً عازماً ولكنه كان شورياً.. كان واسعاً، كان سمحاً.. الناس كلهم يعرفونه.. كان متواضعاً جداً بين الناس.. صعد في المراتب إلى ثاني مرتبة في السودان، ولكنه أبداً ما كان يحبسه ديوان السلطة والسلطان والملك حتى يأتي الناس إليه سائلين.. كان هو الذي يذهب إليهم.. هو الذي ينزل إليهم.. هكذا كان رضي الله عنه)
هذا حديث الشيخ يوم ذاك.. وضعت تحت بعض العبارات خطاً..
أعرب ما  تحته خط بالإعراب السياسي!!
ثم دعني أعود لما قلت في الحلقة الأولى.. حيث ذكرت أني كتبت ذاك الخطاب ولا أذكر ماذا قال! لكني بحثت فوجدت الخطاب في كتاب أصدره الأخ “بشير محمد بشير” باسم (الزبير محمد صالح.. الشهيد الأمة)
اسمح لي أن أجعلك تسترجع الزمن وترى إذا ما كان ذلك الخطاب يومها بهذا الطعم الآن:
(فقدت الأمة اليوم إثر حادث طيران في مطار الناصر، كراماً من بنيها وقادتها الأوفياء الذين قدموا جهداً مباركاً من أجل خير أمتهم ونهضة بلادهم وتمكين دينها وتحقيق نمائها ونشر ألوية السلام والأمن في ربوع الوطن.. وقد استشهد منهم نفر كريم على رأسهم الأخ العزيز الفريق “الزبير محمد صالح” النائب الأول لرئيس الجمهورية، الذي صحبناه في هذه الثورة المباركة إعداداً وتنفيذاً وقيادة، وظلّ طيلة مسيرته في هذه السنوات يعمل في إخلاص ونكران ذات، يقدم عطاء متصلاً وجهاداً مستمراً لا يعرف انقطاعاً.. نشطاً في المحافل الداخلية والخارجية.. وها هو اليوم يستريح شهيداً في سبيل الله تعالى من أجل تحقيق السلام ونشر الأمن والطمأنينة للوطن كافة.
وقدّر الله تعالى أن يكون استشهاده في ذات الموقع الذي أحبّه وجاهد فيه سنين في سبيل أمن الوطن.. وحقّق فيه على يديه مع إخوانه أكبر مداولات الوفاق وإنجاز السلام الذي تكلّل باتفاقية الخرطوم.. وشاءت إرادة الله أن يستشهد معه زمرة من رفاقه.. منهم من عمل في الحياة العامة لنشر الدين والدعوة أو لقيادة حركة السلام أو ولاية العمل العام ودفع المصالح العام للوطن ووحدته…)
وبعد..
كان ذاك اليوم.. بل ظلّ ذاك اليوم وحتى اليوم لم أر فيه صباحاً.. كلما ذكرته تذكّرت أن الشمس يومها هاجرت لبلد آخر..
رحم الله الشهيد “الزبير”.. رحم الله رفاقه الميامين..
ونسأل الله أن يفك عنا طائرات النعوش الطائرة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية