السقوط وتسلُّم السُلطة.. انتهاء مايو وحلول أبريل بأمر الانتفاضة
تقرير ـ هبة محمود
لم تكن انتفاضة (6 أبريل) عام (1985)م ضد نظام الرئيس الأسبق “جعفر محمد نميري” عقب ستة عشر عاماً من الحكم قضاها، سوى تعبير صادق من الشارع الذي توحَّد حينها لأكثر من عشرة أيام كاملة، أعلن خلالها رفضه التام للنظام الحاكم، عبر إضرابات بدأت عشية (27 مارس) كانت شرارتها جامعة أم درمان الإسلامية، ومن قبلها إعلان نقابة عمال السكة حديد بعطبرة، الإضراب المفتوح عن العمل منذ 7 مارس، وخروج مواكب ومظاهرات شبه يومية بعطبرة احتجاجاً على الضائقة المعيشية، ثم تلتها مظاهرات شعبية عفوية وأخرى منظمة بجانب عصيان مدني دعت له النقابات ولم ينته الأمر إلا بإعلان المجلس العكسري بقيادة وزير الدفاع وقتها الفريق “عبد الرحمن سوار الدهب”، الإطاحة بنظام الرئيس جعفر نميري وقيام مرحلة انتقالية.
على الرغم من اتكاء نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري على اقوى أجهزة المخابرات الإفريقية، الا أنه لم يخطر بباله وببال معاونيه، أن بضعة أيام فقط ستكون الحد الفاصل بين مايو الثورة وعهد جديد هو قدوم الحكومة الانتقالية.. 33 عاماً مضت على تلك الحقبة ليبقى السؤال المهم، ما الذي عجل بذهاب نظام مايو، وهل كانت الخلافات الداخلية سبباً في ذلك؟
“الجزولي دفع الله” : تخبط النظام وراء نهاية
الكثير من التحولات السياسية والفكرية والعقائدية تضمنتها فترة حكم نظام “جعفر نميري”، فقد شهدت سنوات حكمه (16) عاما أحداثاً كبيرة وهامة، وهي وفقاً للكثيرين كانت كفيلة بخروج شعبه عليه، أهمها تأزم الأوضاع الاقتصادية في أواخر الفترة المايوية، والتخبط في النظام الذي اعتبره الدكتور “الجزولي دفع الله ” رئيس وزراء الحكومة الانتقالية ورئيس التجمع النقابي آن ذاك كفيلا بقيام الانتفاضة، مؤكدا لـ(المجهر) أن عدم استقرار النظام الذي بدأ يسارياً ثم قومياً عربياً ثم يمينياً هو أيضا أحد الأسباب، وقال: أي زول عاش الفترة الأخيرة للنظام كان سيشهد صفوف البنزين والعيش وانقطاع الكهرباء والماء، بجانب المجاعة التي حدثت بدارفور، تناول على إثرها المواطنون أوراق الأشجار، أضف إلى ذلك التضخم الذي كان بأرقام فلكية فقد المواطنون معه الأمل، وزاد: النظام في بدايته كان جاداً، لكن تخبطه أفقده الكثير، والشعب كان مهيئاً وقتها للتغيير، ولم يكن بالإمكان إحداث إصلاحات تغير رأي الشعب، حتى القوة النظامية نفسها لم تكن مقتنعة بالنظام، ولذلك لم يكن في إمكان القوات المسلحة شيئاً سوى الإطاحة بالنظام، وزاد: أنا في اعتقادي أن الانقلاب العسكري مهما كانت النوايا فإنه لايؤدي إلى نتيجة مرضية وطويلة المدى.
وفي السياق اعتبر البروفسير “إسماعيل الحاج موسى” أن “نميري” نفسه كان أحد الأسباب التي أدت لقيام الانتفاضة، بعد أن (عزل نفسه حتى عن ناسه) بحد تعبيره، مؤكداً لـ(المجهر) أن فقدان الرئيس الراحل لـ(الإسلاميين) كقوة كانت مساندة له سبب أخر يضاف إلى الأسباب عقب تخلصه منهم والزج بهم في السجون، الأمر الذي أفقده دعماً جماهيرياً، وقال: الرئيس نميري في اجتماع اللجنة المركزية قبل سفره إلى أمريكا بلحظات رد على محاسن جيلاني بموجة غضب لا تشبهه، وذلك عندما تحدثت عن الغلاء فأجابها (إنتو لسة شفتو غلاء حيجي يوم الناس تدخل السوق بشوال قروش وتمرق بي كيس)، وأضاف: كما ذكرت لك فإن تغيُّر الرئيس نميري على ناسه واحد من أسباب انتفاضة أبريل.
من الاعتقال إلى الاقتلاع !!
وبحسب الوثائق فإن الضائقة الاقتصادية وفقد الجنيه السوداني في الفترة ما بين 1980 إلى 1985 لـ 80% من قيمته بتأثير عودة الحرب الأهلية، كان أيضاً لخرق “نميري” لاتفاقية أديس أبابا وانفجار التمرد وقوانين سبتمبر من أهم الأسباب التي قادت إلى تأزيم الوضع الذي تصاعدت على إثره الأحداث عقب تطبيقها في البلاد، مما دفع المواطنين للخروج للشارع، وكان ذلك عندما خرج طلاب جامعة أم درمان الإسلامية في مسيرة جابوا بها المدينة وانتهت بحرق مكاتب جمعية ود نميري التعاونية بأم دمان في يوم 27 مارس، أعقبها في اليوم الثاني إعلان الهيئة النقابية للأطباء الإضراب عن العمل، أصدرت على إثره الحكومة بياناً وصفت فيه المظاهرات بالشغب والتخريب، وأعلنت فيها القبض على (2642) شخصاً.
في يوم 31 مارس قامت الشرطة باعتقال 13 طالباً من جامعة الخرطوم، وفي الأول من أبريل إلى الثالث منه ازداد صمود الشعب، حيث انضمت أكثر من 30 نقابة عامة تدعو للعصيان المدني والإضراب السياسي العام، لتمتد عقب ذلك المظاهرات الشعبية العفوية من وسط الأحياء، وفي مساء الاربعاء (3 أبريل) أصدرت الحكومة قراراً بتخفيض أسعار الخبز والزيوت والصابون للحد من تصاعد الأحداث، وذكرت من خلال البيان عودة النميري ومعه ملايين الدولارات، ولكن رغماً عن البيان فقد تم صباح الخميس ((4 أبريل) تنفيذ إضراب سياسي استمرت على إثره المظاهرات، وشهدت البلاد انقطاع الكهرباء وتعطلت خطوط الهاتف والاتصالات والمواصلات وتوقفت حركة الملاحة الجوية، وفي يوم (5 أبريل) استعدت النقابات لمسيرة حاشدة، حيث تم التوقيع على ميثاق تجمع القوى الوطنية لإنقاذ الوطن، وقعت عليه ثلاثة أحزاب هي (الأمة ـ الاتحادي ـ الشيوعي) بجانب النقابات المختلفة.
سوار الذهب يتسلم السلطة ..
في صبيحة السبت (6 أبريل) الساعة التاسعة والنصف صباحاً أنهت القوات المسلحة النظام المايوي عقب الانتفاضات والمسيرات الهادرة التي قام بها الشعب بمختلف فئاته، وذلك عندما أعلن الفريق محمد الحسن سوار الذهب وقتذاك توليه السلطة عبر بيانه الذي أصدر عبره حزمة من القرارات تمثلت في (تعطيل الدستور وإعلان حالة الطواريء في جميع أنحاء البلاد وإغلاق الحدود والأجواء السودانية اعتباراً من اليوم 6 أبريل 1985. ـ إعفاء رئيس الجمهورية ونوابه ومساعديه ومستشاريه ووزرائه المركزيين ووزراء الدولة، حل الاتحاد الاشتراكي وجميع تنظيمات روافده ـ حل مجلس الشعب القومي ومجالس الشعب الإقليمية ـ إعفاء حكام الأقاليم ومجالس الشعب الاقليمية ـ تولى قادة المناطق العسكرية في جميع أقاليم السودان سلطات حكام الأقاليم ـ تولى وكلاء الوزارات المركزية ورصفاؤهم في الأقاليم تسيير دفة العمل التنفيذي في العاصمة القومية والأقاليم حتى إشعار آخر).
بهذه القرارات أنهى سوار الدهب حكم نميري حقنا للدماء، وفقاً لتصريحات صحفية سابقة، أكد خلالها إن القرار الذي اتخذه وقتها، بإقصاء الرئيس الراحل وإعلانه انحياز الجيش للشعب توصل إليه بعد أن تأكد له كوزير للدفاع وقائد عام للقوات المسلحة، بأن نميري “بات لا يملك شعبية”، لافتاَ إلى أن قرار إقصاء نميري، الذي كان في رحلة علاجية في الولايات المتحدة، من أجل “حقن دماء السودانيين”.
خروج بدون عودة !!
في الوقت الذي كان فيه النميري في الجو عائداً إلى الخرطوم ليحبط الانتفاضة الشعبية، نصحه معاونوه بتغيير وجهته إلى القاهرة التي لجأ إليها سياسياً عام 1985، ولم يعد إلى البلاد الا في عام 2000 وحين سئل عن الأسباب التي أفقدتهم السلطة؟ أجاب أن الخيانة وحب القيادة من دون كفاءة لعدد من العسكريين والعقائديين كان هو السبب، مؤكداً أن ما حدث عقب ذهاب مايو تمثل في عدم وجود نهج سياسي يرتقي بالبلاد إلى مستوى مقبول، مما أحدث التخريب والفساد والذل والفقر والجهل وانتشار المرض، مما جعل الشعب في تلك الحقبة يتمنى عودة ثورة مايو مرة أخرى.
وبالمقابل يوكد اللواء “عمر محقر” مدير مكتب الرئيس الأسبق نميري لـ(المجهر) إن ما حدث لمايو في 85 كان متوقعاً، بل إنه تأخر كثيراً، لافتاً إلى أن المعارضة عقب المصالحة الوطنية نحجت في تنفيذ مخططها في الانفراد بنميري وعزله من الجيش وإبعاد الجيش عنه، للدرجة التي أعتقد فيها أنه لم يعد بحاجة للجيش، وقال: كنت أقول له خلينا نمشي القيادة العساكر يشوفوك ويطمئنوا لأن الجيش كان لديه ثقة كبيرة فيه، إلا أنه كان يرفض الذهاب، وكان يرفض النظر في تقارير الاستخبارات والأمن، وزاد: ابتعاده من الجيش هو السبب الرئيسي في ما حدث في أبريل لأن أي حكم لا يكون مسنوداً بـ(بندقية) لن يستمر، واستطرد: نحن مشينا خطوات كويسة في إنو نبقى دولة إسلامية وأغلقنا البارات بقناعة من الرئيس، ودي شجاعة تحسب له، لكن جات بعدها قوانين سبتمبر والعدالة الناجزة، ونحن في الجيش كنا رافضين الحاجة دي، ولو ما نحن قريبن منه نحن ذاتنا كنا انقلبنا عليه.
بينما يرى الفريق “احمد الطيب المحينة”، مدير الأمن الاقتصادي في العهد المايوي أن الانقسامات والأجنحة داخل الاتحاد الاشتراكي هي التي عجلت برحيل النظام، لافتاً (المجهر) إلى وجود ما يقارب خمسة أجنحة رفض تسميتها، هي من قامت بمظاهرة الردع، وهي التي ساعدت بدورها في ذهاب النظام.