خربشات
(1)
في مثل هذا اليوم قبل (33) عاماً مضت نفضت الخرطوم عن زوايتيها النعاس.. واكتحلت بتراب الأرض.. وحمل الأطفال الصبايا.. والفتيات غصون النيم.. خرجوا للشوارع ثائرين على أوضاع اقتصادية انحدرت إلى أسفل ونظام سياسي فقد أسباب بقائه ورئيس مكث في الحكم ستة عشر عاماً من الزمان.. هرم وشاخ ومعه شاخت الدولة وعجزت عن أداء وظيفتها.. وخرج “جعفر نميري” إلى الولايات المتحدة الأمريكية يبحث عن القمح لإطعام أقل من خمسة وعشرين مليون من السكان في ذلك الوقت.. و”النميري” في رحلته الخارجية.. خرجت جموع الشعب ومن وراء ستارة تقف المعارضة تسعى وتمني نفسها بسقوط النظام وهي مرعوبة من بطش جهاز الأمن المايوي وغير واثقة من أن النظام المايوي قد أصبح قابلاً للسقوط بعد انفضاض الإسلاميين عنه، وكانوا هم الورقة الأخيرة التي يستر بها “جعفر نميري” عورات نظامه.. واجتمعت مصالح النخبة العسكرية التي وثق فيها “جعفر نميري”.. وسلمها قيادة الجيش مع مصالح الإسلاميين بقيادة “الترابي”.. وحزب الأمة بقيادة “الصادق المهدي” والبعثيين والشيوعيين الحانقين على مقتل قادتهم في المحاولات الانقلابية المتعددة التي دبرها اليسار لاقتلاع النظام ووراثته.
كل هذا الطيف وجد نفسه بقدر وصدفة.. في الشارع يهتف بسقوط نظام “جعفر نميري” ويتوعده بالويل والثبور.. والمطرب “محمد عثمان وردي” يغني أناشيد الثورة والفرح.
يا شعباً لهبت ثوريتك
تلقى مرادك والفي نيتك
ويمجد “وردي” الشعب الذي كان في غيبوبة ونوم عميق امتد منذ عام 1969م، وحتى مارس 1985م، ليمسح عن عينيه رهق المسير..
ماك هوين سهل قيادك
سيد نفسك من أسيادك
أنت نسيج الغد هنداكم
وأنت نسيم الصبح كلامك
وعطر أنفاسك..
جابت التظاهرات في الأسبوع الأخير من مارس 1985م، شوارع الخرطوم.. وتركت قوات الشرطة والأمن الشعب (يعبر) عن نفسه ويكشف عن آلامه وأوجاعه.. ولو بطشت القوة التي تحتكر أدوات العنف بالمتظاهرين.. وأذاقتهم الرصاص وأطعمتهم النحاس الأصفر لقمعت الانتفاضة الشعبية في ذلك الوقت ولعاد “جعفر نميري” للخرطوم وفعل بالمعارضة ما لم يفعله بها طوال الستة عشر عاماً التي انصرمت من حكمه، لكن الجيش والشرطة وجهاز الأمن المايوي قد انحازوا للشعب.. وقد أطلق “جعفر نميري” على ذلك الانحياز خيانة الثورة من الثوار!!
(2)
الآن بعد مضي (33) عاماً على سقوط النظام المايوي هل المحتفين فقط في وسائل الإعلام والمرددين لشعارات الانتفاضة والصور والقصص والحوارات الباهتة الباردة التي تنشرها الصحف هذه الأيام مع ما يعرف بأبطال الانتفاضة وصناعها تمثل فرحة بسقوط ذلك النظام؟ أم احتفاءً بذكرى ميلاد حكومات بلغ هوان الديموقراطيين بها مبلغاً بعد أقل من خمس سنوات بأن وصفها أحدهم (بالجيفة) التي يعافها حتى الكلب!! ولم يتبق غير العبر والدروس من انتفاضة رجب/ أبريل التي أطاحت بـ”النميري”.. لماذا سقط وكيف سقط؟ إن أهم أسباب سقوط نظام “جعفر نميري” الحرب التي اندلعت في ثياب الوطن وأطرافه الجنوبية وامتدت شمالاً إلى المنطقة التي تعرف بجبال النوبة.. وتدهور الأوضاع الاقتصادية حتى بات الحصول على قطعة الخبز الحاف نجاحاً لرب الأسرة والوقوف في صف البنزين على قلة عدد العربات يومها شيئاً مألوفاً.. وتدهور علاقات البلاد الخارجية، وقد كثر اللاعبون الإقليميون المناوئون لـ”جعفر نميري” من الشرق منقستو ود مريام”.. ومن الشمال الغربي “معمر القذافي” ومن الغرب “حسين هبري”.. ومن الجنوب “ملتون أبوتي” وحتى مصر التي كانت ترعى النظام المايوي والسعودية التي تطعمه من جوع والولايات المتحدة التي تحمي النظام، قد فجعتها الأزمة الاقتصادية الداخلية.. وإمساك السماء عن مائها.. وحلول دورة الجفاف ونقص المطر على الساحل الشرقي من القارة الأفريقية وجاعت البطون للخبز قبل أن تتوق النخب إلى الحرية والديمقراطية.. ودودة الأرض التي أكلت عصاة النظام وجعلته يسقط ويهوى على الأرض ليست قضايا النخب.. وأشواقهم للحريات وإنما الخبز الحاف والعيش الذي هد حيل النظام المايوي.. وقد كشفت أحداث مارس/ أبريل عن ضعف بنية النظام المايوي وفشلها في الدفاع عن نفسها.. وحينما تهاوت أعمدة النظام أنفض أصحاب المصالح عن “جعفر نميري”.. و(تركوه) لقدره وحده في القاهرة ينظر بعين السخط لضابط اسمه “محمد حسن سوار الدهب” وبعين الغضب الشديد على الإسلاميين الذين كانوا في حملته المنافحة عن بقائه حتى وقت قريب، لكن انقلب عليهم بعد أن كثرت وصايا الأوصياء على النظام بضرورة (التخلص) منهم.. ولكنهم خلصوا الشعب من “نميري” في نهاية المطاف وهم يغذون شرايين التظاهرات التي انطلقت بعناصر شبابية، كانت أكثر حماسة للتغيير من شباب الحزب الشيوعي الذي ولد فجأة بعد الانتفاضة.. بعد أن كان حزب البعث الأكثر تضحية وبلاءً في سبيل إسقاط النظام.
(3)
جاء النظام الديمقراطي بانفاش الشعر وحرية الفكر وحق التعبير.. وجرت الانتخابات في مناخ سياسي تسوده الحرية.. وحصدت القوى الطائفية أغلبية مقاعد البرلمان وبلغ نصيب حزب الأمة (101) مقعداً وحل الاتحادي الديمقراطي ثالثاً: بـ(64) مقعداً والجبهة الإسلامية القومية ثالثاً: بـ(51) مقعداً والتجمع السياسي لجنوب السودان بزعامة الراحل “صموئيل أرو بول” رابعاً: وصعد الحزب القومي السوداني، خامساً على حساب القوى التقليدية وتراجعت فرص اليسار وخسر الحزب الشيوعي أغلب الدوائر التي كانت مناطق نفوذه و(اضطر) الحزب الشيوعي للتخفي وراء (الاستقلالية) لينال مقعدين أولهم في دائرة السكوت المحس في أقاصي الشمالية والثانية دائرة الدندر. د.”منصور يوسف العجب”.. ونجحت الجبهة الإسلامية في محاصرة الحزب الشيوعي وكتم أنفاسه وتجريده من كل فضيلة.. ولكنها بالطبع فشلت في التقليل من أثر اليسار على السياسة السودانية ورغم ضعف الوجود اليساري في البرلمان إلا أن الحزب الشيوعي ظل يفرض رؤيته وأجندته على رئيس مجلس الوزراء السيد “الصادق”.. وسقط الحزب اليساري الآخر حزب البعث العربي الاشتراكي في كل الدوائر الجغرافية ولم يدخل البرلمان الذي سيطر عليه آخرون.. ولكن النظام الديمقراطي لم يستطع الصمود كثيراً.. وواجهته مصاعب ومشكلات أقعدته عن السير وتربص بالديمقراطية في السودان الجيران من العرب والأفارقة.. وتعثرت مسيرة حكومات “الصادق المهدي” المتعاقبة.. وشعرت جموع الشعب بخيبة أملها في الذين حملتهم على أكتافها لقبة البرلمان.. ووضعت آمالها عليهم.. فسقطت الديمقراطية الثالثة تحت مجنزرات “البشير” في صبيحة الثلاثين من يونيو 1989م، وأصبحت ذكرى الانتفاضة يجترها فقط كبار السن والجيل الذي تجاوز عمره الأربعين.. فبأي عودة عادت هذه الذكرى في السادس من أبريل 2018م.