خربشات
(1)
في مثل هذا اليوم قبل أسبوعين أي في العاشر من شهر مارس الجاري شهدت قيام محكمتين شعبيتين صدر قرار تعيين أعضائهما من كبير القضاة بكردفان، وأشرف مولانا “إدريس علي سليمان” قاضي محكمة الديبيات ومولانا “أبو بكر عبد الله” القاضي الجزئي على أداء القسم لقضاة شعبيين لمحكمتي الدبيبات الريفية برئاسة القاضي الشعبي أو الأهلي مولانا “أحمد الرضي كرسي” ومحكمة السنجكاية الريفية برئاسة العمدة “مالك دراس أبوهم” وتتكون المحكمة الأولى من قاضٍ وستة عشر عضواً من الأعيان الموثوق في ذمتهم والمشهود لهم بحُسن السيرة وكريم الأخلاق.. وأمام السيد معتمد محلية القوز “المكي إسماعيل قادم” فاضت قاعة المحلية بعفوية المحكمتين الأهليتين وعدد قليل من الأعيان وأعضاء البرلمان، وذلك بعد فحص السلطة القضائية لسيرة وملفات الأعضاء ورئيسي المحكمتين ونوابهما.. والقضاء الأهلي في السودان راسخ رسوخ الخدمة المدنية والنظام الأهلي، ويجمع قادة الإدارة الأهلية بين الإدارة والقضاء وفي ذلك وقفت عند مولانا “إدريس سليمان” الذي قال أمام الأعضاء إنها واحدة من التحديات التي تواجه الإدارة الأهلية في السودان والتي لا يزال دورها فاعلاً ومهماً جداً نظراً لطبيعة النزاعات التي تذهب إليها من القضاة أو باختيار المتقاضين من الأهالي.. ويعود تاريخ محكمة الدبيبات الأهلية الشعبية لنحو خمسين عاماً من الزمان، ويعد القاضي والفقيه والشيخ “حامد يونس” أشهر من تولى رئاسة هذه المحكمة التي تتخذ من مدينة الدبيبات مقراً لها، ولم تتأثر كثيراً بوصول قاضي المحكمة العامة قبل سنوات معدودة بفضل خطة التوسع التي بدأها القاضي الأشهر مولانا “أحمد أبو زيد” قاضي قضاة كردفان قبل أن تتخطفه السياسة ويتم تعيينه وزير دولة بالعدل، فخسر القضاء قاضياً شهيراً.. ورمزاً للاجتهاد والمثابرة وتطوير القدرات.
ولم تكسب السياسة وزيراً إذ سرعان ما ضاقت به عباءة الوزارة وضاق بها.. واختاره الرئيس من بين خمسة مرشحين لمنصب رئيس هيئة المظالم.. ومن سمات محكمة الدبيبات فصلها ما بين الإدارة الأهلية والسلطة القضائية.. وخلال سنوات طويلة تولى فيها العمدة الراحل “عبد الله إدريس” شؤون القبيلة القريشية التي خرج من صلبها الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعتبر الدبيبات في شمال الجبال وأبو جبيهة بالمنطقة الشرقية من الولاية والدالي والمزموم بولاية سنار موطن لتلك القبيلة.. وقد اختار العمدة “عبد الله إدريس” إدارة القبيلة من قرية الشقة الواقعة شمال غرب الدبيبات، بينما أسندت المحكمة لمولانا “أحمد الرضي كرسي” وهو شخصية متفقاً على أدبها.. وحنكتها الإدارية ونزاهتها.. وبعدها عن شح النفس وحب الذات ومطامع الدنيا.
في العام الجاري غيب الموت العمدة “عبد الله إدريس” وبقيت المحكمة في الدبيبات.. فأعادت الهيئة القضائية تشكيلها، احتفظ مولانا “أحمد الرضي” بالرئاسة وأصبح العمدة “سعد عبد الله إدريس” ينوب عنه، والشيخ “أبو ريدة موسى” والقيادي “حماد سلام” الشهير بـ(بحماد الأحمر) الذي يطلق عليه لقب والي على منطقة انقلبنا لنفوذه السياسي والإداري، ومن أعضاء محكمة الدبيبات “جاد الكريم داؤود يحيى” والشيخ “جمعة الشريف” ولا تعرف المحاكم ما يعرف بدائرة الاختصاص، ولكنها تمتد سلطاتها مرنة لملاحقة الجناة ويفضل حتى الآن كثير من المتنازعين بمحض إرادتهم الذهاب لمحكمة “أحمد الرضي” في الدبيبات خاصة في نزاعات الأراضي والسرقات والتعديات وحتى القضايا الاجتماعية الأقرب لقضاة الأسرة والمجتمع، ولكن الخبرة الطويلة الممتدة لأكثر من (30) عاماً جعلت محكمة الدبيبات الأهلية من أكثر المحاكم في كردفان شهرة وخبرة.
(2)
المحكمة الثانية بمحلية القوز هي محكمة السنجكاية الريفية التي تعتبر أكثر رسوخاً من محكمة الدبيبات ويمتد عمرها لسبعين عاماً، ويعتبر “موسى أبوهم” أشهر من جلس على كرسي رئاسة المحكمة التي تنعقد في يوم الجمعة بسوق الحاجز أكبر أسواق الماشية بكردفان في فصل الصيف وينعقد في منطقة شق الفروت وغلة بره التي تعتبر رئاسة لقبيلة دار شلنقو وبها راكوبة العمدة، وقد أضاف العمدة الجديد “مالك دراس” مقر آخر للمحكمة بسوق مناقو.. لتصبح محكمة دار شلنقو الريفية عبارة عن (محكمة موبايل) وبعد رحيل العمدة “حماد موسى أبوهم” انعقدت الإمارة والقيادة لـ”مالك دراس” بعد أن بايعته حشود المشايخ على القيادة الطوعية.. ولم يمضِ على تنصيبه عمدة لقبيلة دار شلنقو، إضافة للعمدة “شرف الدين شنتو” حتى وضعت الهيئة القضائية ثقتها فيه وفق شروط صارمة ومواصفات محددة لا تتنازل عنها الهيئة، وبعد تمحيص وتدقيق تم اختيار “مالك دراس” رئيساً لمحكمة السنجكاية الأهلية واختيار أعيان ورموز اجتازوا اختبار النزاهة وضمت محكمة السنجكاية نحو اثنى عشر عضواً منهم الشيخ “ضي النور عبد الله” والشيخ “عبد الله علي” والشيخ “الأمين عجيل” والشيخ “علي الغائب” والشيخ “مبارك أحمد عمر” والأستاذ “موسى أحمد رجال” ويتسع ثوب دار شلنقو ليضم قبائل تنحدر من قبائل أخرى ولكنها هنا.. تتعايش وتتعاون مثل قبائل الصليحاب (البرقو) في مناقو وهؤلاء أصحاب عزائم وانحياز كامل للشريعة الإسلامية، وهم فقهاء وعلماء دين وحفظة القرآن الكريم.. ومن رموزهم وقادتهم الشيخ “علي شيخ الدين” عليه رحمة الله والشيخ “حسن” والشيخ “أحمد رجال” و”أبو بكر هارون”.. و”الفكي دهب عثمان” والشيخ “الفكي عبد المجيد” والشيخ “العالم سليمان”.. تضم العمودية الشنابلة وبني فضل في منطقة الفينقر وبمنطقة أو قرية أم كشواية.
ويقول الدكتور “إسماعيل مهدي” إن بني “فضل” ينسبون إلى “الفضل بن العباس بن عبد المطلب” رضي الله عنه، وهذه المحكمة عقدت يوم (الثلاثاء) الماضي أولى جلساتها في سوق مناقو وأوقعت أحكاماً على مواطنين يهددون البيئة والغابات.. وفرضت المحكمة غرامات وصلت لألف جنيه للمواطنين الذين يعتدون على الغابات ويمارسون الاحتطاب العشوائي.. دون تصاديق من السلطة.. والقاضي “مالك دراس” نقل المحاكم الريفية من قضايا الطلاق ونزاعات الأراضي إلى قضايا البيئة ومحاربة القطع الجائر للغابات.. ومكافحة التهريب وفوضى التعدي على الأراضي المخصصة للرعي التي يعتدي عليها المزارعون وتنشب بذلك صراعات الرعاة والمزارعين.
(3)
كان القاضي “مالك دراس” قبل تعيينه عمدة ورئيساً للمحكمة يمثل فاكهة مجالس الأنس.. وفي صالون أولاد “عبد الله بدر” في الدبيبات حيث تجمع هذه الأسرة عابري السبيل وطالبي الحاجة.. والغريب الزائر.. وتحمل الحاجة الشيخة “الدقة” بت “إبراهيم” الشهير (بيوزا) قدحها إلى راكوبة أولادها إطعاماً للفقراء والمساكين وضيف ابنها “بدر عبد الله” في تلك الراكوبة ينثر العمدة الحكم وقصص المجتمع.. وفي المساء تمتد جلسات شرب الشاي والقهوة واللبن أمام بائعات الشاي.. يأتي “إبراهيم ود أبو دقن” والضابط الإداري “عامر حسن عبد القادر” وكبير عائلة الأسباط “أحمد” و”مصطفى موسى” القيادي في البرلمان.. والعمدة “محمداني هبيلا” والعمدة “سعد عبد الله”.. ويصبح المجلس برلماناً يناقش قضايا المجتمع في محلية القوز، ولكن بعد أن أصبح “مالك دراس” قاضياً اختفى من المسرح والتزم توجيهات الجهاز القضائي فكسب المجتمع قاضياً يمضي على درب الراحل العمدة “حماد” وخسرت مجالس أصدقائه فاكهة طيبة المذاق وبرلمانياً شعبياً يبدد طول الليل في فصل الشتاء.. ويرطب حرارة الصيف في القوز الحبيب إلى النفس.