أخبار

خربشات

(1)
تذكرتْ حاجة “سكينة” إن عبوة صغيرة من السكر تحتفظ بها أسفل درج المطبخ.. أخفتها من أبنتها “سارة” المولعة بصنع الخبائز والمعجنات والحلوى.. مدت يدها إلى عبوة السكر تفاجأت بنصف عبوة فقط.. أدركت أن أيادي “سارة” قد امتدت للسكر الذي ادخرته ليوم كريهة.. وحاجة.. نفدت الطماطم من الثلاجة التي أصبح لها زفير بتطاول العمر.. وأثر حرارة المطبخ.. آخر قطعتين من البطاطس يقبعان في الحوض الأسفل.. علبة الصلصلة جفت.. ثلاث ليمونات.. وبقية شطة خضراء.. لا يزال الشهر في المنتصف، وسعد صاحب دكان الحلة قد أطلق تحذيرات لحاجة “سكينة” من تجاوزها السقف المتفق عليه (للاستدانة) والمقدر بأقل من معاش السيدة التي فقدت وظيفتها منذ سنوات، بعد أن وشى بها مديرها المباشر للوزير وأقسم بأنها تتحدث عبر الهاتف مع شخص ما عن إسقاط النظام، وزعم أن “سكينة” تقرأ كتاباً لمصري تم تكفيره من قبل الأزهر الشريف، وفرق بينه وزوجته يدعى “نصر حامد أبو زيد” وزاد المدير، الذي راود “سكينة” عن نفسها ،وتمسكت بعفتها والوفاء لزوجها حياً وميتاً، فزجرته وأمسكت بلحيته حتى (معطت صوفها الكث)، فتوعدها بالويل والثبور وعظائم الأمور.. ولم تمض شهور على تلك الواقعة حتى وجدت “سكينة” اسمها في كشف (المحالين) للصالح العام، والذين يشكلون خطراً داهماً على النظام ويتربصون به.. مما يجعل فصلهم وحرمانهم من حق الكسب الحلال أمراً تقتضيه الشريعة والحفاظ على بيضة الدين وصلاح الأمة..!! وبقاء أمثال “سكينة” في الوظيفة العامة يهدد أمن المجتمع.. وأشياء أخرى..!! عادت لمنزلها وهي تنتظر رب السماء يوم الحساب لتقف ويساق مديرها إلى جهنم جراء ما اقترفت يداه الملوثة بفصل الموظفين ظلماً وحيفاً، فأصبح لـ”سكينة” منذ فصلها من الخدمة في وزارة التجارة والتموين معاش شهري يذهب لحسابها في البنك ولزوجها المرحوم معاش آخر بعد أن قُتل في حرب الجنوب ضمن عمليات صيف العبور.. التي أرست قواعد الحكم في البلاد شمالها وجنوبها، رغم أن الحرب خاضتها القوات المسلحة في الجنوب.
(2)
للحاجة “سكينة” بطاقة صراف آلي واحدة تستخدمها في سحب رصيدها الشحيح من المال لتغطية جزء من احتياجات أسرتها الصغيرة، بطاقة حاجة “سكينة” تضعها في محفظتها المتهالكة.. في ذلك الصباح حاصرتها ديون.. دكان الحلة.. والكهرباء نفدت والثلاجة خاوية من الخضروات.. و”سارة” كثيرة الطلبات لتغطية نفقات الجامعة و”سامي” مرتبه لا يكفي المواصلات ونفقاته الشخصية، حيث يعمل في شركة للخدمات الأمنية.. ليلاً، وفي النهار يعمل في مقهى (كنادل..) أخذت “سكينة” تقلب دفتر حساباتها.. الشخصية.. ومطلوبات الأسرة.. صابونة غسيل ونصف كيلو عدس وسلطة طماطم وجرجير وبصل بمبلغ (30) جنيه وكهرباء بمبلغ (50) جنيه، وزيت وثوم وشمار بمبلغ (50) جنيه.. ومواصلات لـ”سارة” وإفطار (100) جنيه في الأسبوع.. ومتبقي الرصيد من معاش المرحوم (200) جنيه ومتبقي معاشها (150) جنيه.. أخذت بطاقة الصراف الآلي واتجهت إلى المصرف القريب.. أعداد كبيرة من المواطنين والمواطنات ينتظرون تغذية الصراف بالمبالغ المالية التي تلبي احتياجات المواطنين.. زاد عدد المنتظرين.. عمال وطلبة وعساكر.. ونساء.. اقترح أحدهم أن يقف الرجال صفاً والنساء صفاً آخر في انتظار النقود.. هرع الجميع لأخذ مواقعهم.. مضت ساعة ولم يغذِ البنك الصراف.. خرج موظف مقطب الجبين.. فارع الطول تتقدم بطنه على لحيته السوداء.. وقال بنبرة سلطوية.. ما في قروش ما عاوزين جمهرة هنا..
أخرج الشرطي عصاه.. وطلب من الجميع الانصراف قبل حضور سعادتو..
قالت “سعاد” وبدا عليها الضيق والضجر.. عاوزين حقنا.. قروشنا وعرق جبينا . تقول لينا انصرفوا؟؟
رد عليها الشرطي ما عاوزين نقه يا حاجة.. قروش ما في، يعني قروش ما في!!
حاول شاب إقناع الشرطي بأن الحاجة تطالب بحقوقها لا أكثر من ذلك.
لكن الشرطة زجره بنبرة لا تقبل التعقيب.. شوف يا شاب أي كلمة (برفعها) في الدفار الآن!!
أخذت حاجة “سكينة” تتجول بين الصرافات في مدينة أم درمان على أمل وعشم أن تحصل على مائتي جنيه فقط من رصيدها (الما في).. اهتدت لفكرة الذهاب للبرلمان حيث خصص المجلس الوطني صرافاً بداخله للنواب والموظفين .في محطة العشرين، توقف بص الوالي ،واتجهت نحو البناية الرمادية اللون.. شاهدت حشداً كبيراً من الشرطة في بوابة المبنى الذي يعبر عن ضمير الشعب، وأكثر من نصف نوابه منتخبون من قبل الشعب، والنصف الآخر تم تعيينهم بقرار من الرئيس، يمثلون نواب الحوار. اعترضها شاب يرتدي بدلة سفاري قبل الوصول لبوابة البرلمان.. علمت حاجة “سكينة” أن الشرطة تترقب وصول نساء يمثلن أمهات وزوجات معتقلين في أحداث التظاهرات الأخيرة.. حاولت إقناع الشاب بأنها تبحث عن صراف آلي لإطعام أطفالها ونفسها والحصول على كهرباء.. ودفع إيجار الشهر بعد أن تأخرت في سداد ما عليها.. رفض الشاب توسلات “سكينة” وأمرها بالانصراف نظرت إليه ملياً.. وقالت بحسرة ما في فايدة ، يا ولدي!!
لمحت من بعيد، صديق موسى” النائب البرلماني يمتطي سيارته البرادو.. معتمة الزجاج.. ترجل “صديق” وحيا حاجة “سكينة” التي كانت “صديقة” للمرحومة والدة “صديق”.. الذي كان طالباً نابغاً في الثانوية العامة، لكنه رفض دخول الجامعة ،واتجه لمساعدة والده في تجارة الفول والسمسم.. أخذ “صديق” حاجة “سكينة” لداخل القبة التي تنبعث منها موجة هواء باردة جداً وروائح زكية تنعش الروح.. ونافورة تساقط المياه.. وتجعل المناخ مخملياً.. المقاعد الوثيرة في مداخل المكاتب الزجاجية.. ومراسلو الصحف يجلسون في غير انتظام ينتظرون خروج شخصية مهمة.. اتجهت حاجة “سكينة” إلى الصراف الآلي وضعت البطاقة في المدخل الإلكتروني.. لكنها تفاجأت بنفاد النقود.. ولكن تطبيقات الكمبيوتر لا تشير لطالب الخدمة بنفاد النقود، وتغريه لمعاودة المحاولة مرة أخرى شعرت بمرارة في نفسها وأسى يحرق حشاها وبناتها ينتظرن وجبة الغداء.. بحلقت في الوجوه الناعمة والوجوه التي نعمتها النعمة.. سمعت صوت دوي انفجار خارج المجلس.. طمأنتها “محاسن سيد أحمد” سكرتيرة رئيس لجنة الزراعة بأن الشرطة تستخدم قنابل صوتية كاذبة لبث الرعب وتفريق التجمعات غير الشرعية.
حاولت “سكينة” أن تقول شيئاً عن مشروعية احتجاج المواطنين، وحقهم في التظاهر أمام قبة البرلمان، كما حدث في كل العالم، لكنها تذكرت ثلاجتها الخاوية من الخضروات وابنتها “سارة” المنتظرة قدومها، وشعرت “سكينة” بأن الدنيا قد أظلمت في وجهها.. رفعت يدها إلى أعلى للدعاء لتفريج همها وغمها.. وتراجعت خوفاً من أن يسمع دعاءها أحد في البرلمان ويشي بها للسلطات ويزعم أنها تسأل الله أن ينزل عقابه على من حرمها حق العيش الكريم من حر مالها.. وكريم رصيدها.. لأن الدعاء للسلطات جريمة يعاقب عليها القانون …
(4)
عادت “سكينة” مجروحة القلب تتأمل في السماء.. ولكنها سمعت من بعيد جداً صوتاً دافئاً ينشد شعراً..
وبحلم بيك
وطن هاني
يعمك خير مباهج سلم إنساني
حضارات مجدك الأول
نعود أجمل
ومن تاني
نتآلف وطن واحد
وطن رائع ومهيب
والأصل سوداني

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية