أخبار

(البدون) السودانيون

ظل نائب رئيس الجمهورية “حسبو محمد عبد الرحمن” يردد كثيراً في لقاءاته السياسية أن البلاد مزيج من العرب والأفارقة والأتراك والشراكسة والأرناؤط.. ويضيف إليهم السيد النائب (آخرين) يقول إنهم (لا طعم لهم ولا لون ولا رائحة)، وبالتالي يصبح هؤلاء (بدون سودانيون) مثل بدون الكويت، ولكن ما بين (بدونهم) و(بدوننا) فارق مقدار، فإذا كانت دولة الكويت لا تعترف بكويتية بعض المواطنين وترفض منحهم الجنسية كحق إنساني، فإن السودان دولة كريمة جداً في توزيع جنسيتها على الأجانب من سوريين وماليين ونيجيريين وكرواتيين وحتى يمنيين.. وفي سنوات مضت منحت السلطات السودانية جنسية للاعب كرة قدم من أصل يمني وآخر عراقي وثالث مصري.. وقد ثارت ثائرة الواتساب الأسبوع الماضي، حينما قالت صحيفة كويتية مغمورة إن مصدراً أبلغها عن خطة كويتية لسودنة (البدون) الكويتيين، تمهيداً لحل مشكلاتهم العصية.. أما (البدون) الذين ذكرهم السيد النائب في خطبته السياسية فيهم (بدون) مجازاً فقط.. لا إثبات أن السودانية هي الرابط الثقافي الوطني بين هويات متعددة لأهل هذه البلاد.. التي دفعت أثماناً باهظة وتكاليف تنوء عن حملها الجمال، بسبب خيارات انتمائها التي أقرها آباء الاستقلال، من المفكرين والساسة الأوائل، بعروبة السودان، وبذلك وضعوا بذرة في تربية مشكلة الهوية، التي بسببها ذهاب الجنوب إلى سبيله برفضه للعروبة ورفضه للإسلام.. وحارب الجنوب الشمال مناهضاً للعروبة وللإسلام، ولكن بذرائع أخرى غير معلنة.. مثل التهميش والسودان الجديد مقابل القديم.. ومن المفارقات المبكيات المضحكات أن الجنوب الذي رفض عروبة شمال السودان، هرع بعد سنوات من استقلاله وقدم طلباً للجامعة العربية لنيل عضويتها بصفة مراقب.. وهي خطوة أولى قبل أن يطلب العضوية الكاملة.. ولو كان يقوم على قيادة الدبلوماسية السودانية رجل بوعي وثقافة السفير “جمال محمد أحمد” أو د.”منصور خالد” لدعم طلب جوبا.. وحث العرب على قبوله.. وفي السودان مفاهيم بينة الاعتدال وضعيفة السند.. وذلك بزعم بعض دعاة الزنوجية.. بالحديث المعتل عن العروبة مقابل الأفريقانية.. وفي ذلك ضرب من الجهالات غير الحميدة، فالأفريقية وطن وجغرافيا، وليست إثنية وعرقية.. وأكثر من نصف العرب وطنهم أفريقيا.. والسودان دولة أفريقية من حيث الجغرافيا، مثل الجزائر وتونس والمغرب، وعربية من حيث الثقافة، والجذور الإثنية لبعض قاطنيها من القبائل العربية المستضعفة في الجزيرة العربية، والتي فرضت عليها ظروف عديدة الهجرة، أما لأفريقيا السوداء أو إلى شرق آسيا.. والشعوب التي تهاجر من أوطانها هي الشعوب التي تعيش على الهامش.. وباستثناء الهجرات لأسباب عقائدية، مثل هجرة الصحابة إلى الحبشة ومصر وأرض السودان وإلى الأندلس، فإن المجموعات السكانية التي هاجرت من بعد ذلك، أغلبها دفعتها ظروف قاهرة لترك أوطانها.. وغالب المهاجرين من الرجال الباحثين عن وضع أفضل من أوطانهم الأصلية، وبطبيعة الحال لم يهاجر بنو “هاشم” ولا “الأوس” و”الخزرج”، ولكن هاجر هامش الجزيرة العربية بحثاً عن سد رمق البطون الجائعة.
إذا كان هناك من لا طعم ولا لون ولا رائحة لهم، فالإشارة هنا.. رمزية فقط لمن يصعب تصنيفهم من حيث الانتماء العرقي للعرب أو الزنوج.. وهناك مزيج الأتراك والسودانيين، نتاج التلاقح والتزاوج.. والبقاء.. والفتح أو إعادة استعمار البلاد، حيث عمد المستعمر القادم من خارج الحدود بعد سقوط أم درمان، على استباحة المدينة الفاضلة.. والنيل من شرفها.. وتلك الأيام السوداء فرضت على قبائل وجماعات عديدة جاءت لنصرة المهدية وتحرير البلاد من المستعمر، للهجرة العكسية والعودة مرة أخرى، من حيث جاءوا.. ومزيج النيل السوداني نسيج وحده.. ولكن له طعم ومذاق خاص.. حتى لو استخدم “حسبو” مجازات بليغة في وصف حالنا.

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية