على خلفية لقاء (كرتي – كلنتون) بنيويورك: العلاقات السودانية الأمريكية.. هل تتبدّل العصا بالجزرة؟!
بلغة المحفزات والتعاون الثنائي، تحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية هذه المرة، وهي تلتقي “كرتي”، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، بنيويورك، للمرة الأولى، عقب توقيع السودان لاتفاقيات القضايا العالقة بين دولتي السودان.. تلك اللهجة التي غابت طويلاً عن طاولة اللقاءات المغلقة والمفتوحة؛ الأمر الذي وضعه مراقبون في خانة الإيجاب فيما يخص العلاقة بين البلدين، وربما على الخرطوم الآن استثمار هذا المناخ الايجابي في تسوية بعض القضايا، من بينها بالطبع ملف الإرهاب والعقوبات الاقتصادية، تلك الملفات التي طالما استخدمتها الإدارة الأمريكية في إطار إستراتجيتها المعروفة بسياسة العقوبات والمحفزات أو كما اصطلح على تسميتها بسياسة (العصا والجزرة).
ومنذ أن اعتلى “بوش” كرسي المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض بدأت إدارته انتهاج سياسة (خطوة خطوة) تجاه السودان، واعتمدت في بدايتها على الحوار ثم التلويح بالعقوبات، وكان الهدف الأساسي وراء تلك السياسة – حسب مراقبين – هو تطويع نظام الخرطوم بعدما نعت بدعم الإرهاب، وبدأت ملامح تلك السياسة تظهر منذ يوليو من العام 2000م عندما بدأ مركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن دراسة ملف الحرب الأهلية في السودان، وفي فبراير من العام 2001م أصدر تقريره الشهير الذي أوصى بتبني سياسة جديدة تجاه السودان تقوم على التواصل الإيجابي، وتهدف إلى تحقيق السلام ضمن معادلة جديدة.. الإدارة الأمريكية نفذت توصيات التقرير بدقة متناهية، وكان من بينها تعيين مبعوث خاص للسودان، وبالفعل وقع الاختيار – حينها – على السيناتور “جون دانفوث” مبعوثاً خاص للسودان في العام 2001م.
وظلت الإستراتيجية الأمريكية – حيال الملف السوداني – يشوبها غموض واضح سبق أن أكده حديث مبعوث الرئيس الأمريكي الأسبق للسودان “سكوت غريشن”، عندما أعلن أمام تجمع ضم بعض المنظمات من بينها (انقذوا دارفور).. (إن جزءاً من الإستراتيجية الأمريكية تجاه الملف السوداني ما زال سراً.. ولا يمكن إطلاع الجمهور عليه!!).
وحكمت تلك الإستراتيجية – حسب مراقبين – سياسات متشددة ظلت تعكس تحرك اللوبيات المعادية للسودان والمؤثرة بصورة كبيرة داخل الإدارة الأمريكية والكونغرس وبعض المنظمات والمجموعات الضاغطة، سواء أكانت تلك التي تخدم مصالح اللوبي اليهودي أو التي تنتمي إلى الشركات العاملة في مجال النفط وغيره.
على أن تلك الإستراتيجية اتسمت في كثير من فصولها بعدم الوضوح رغم تقارير عديدة أشارت إلى أن الإستراتيجية الأمريكية تجاه السودان لم توضع بيسر.. فقد أكدت صحيفة (الواشنطون بوست) أن السياسة الأمريكية الحالية تجاه السودان تم التوصل إليها بعد نقاش مطول.. ووصفتها بأنها تحقق مواقف “أوباما” التي أعلن عنها منذ حملته الانتخابية عندما حث على فرض عقوبات أشد على السودان، كان من بينها حظر الطيران السوداني فوق قرى دارفور.
مندوبة أمريكا السابقة في مجلس الأمن “سوزان رايس” سبق أن وصفت تلك الإستراتيجية بالذكية والصارمة.. وعرفت “رايس” بتطرف مواقفها ضد السودان منذ أن كانت مساعدة لوزير الخارجية الأمريكية “مادلين أولبرايت”.
وزيرة الخارجية الأمريكية “هيلاري كلنتون” أعلنت في وقت سابق أن بلادها ستعرض على السودان حوافز استناداً إلى التغيرات التي يمكن التحقق منها على أرض الواقع، وقد فهم حينها أن تلك الإشارات قصد بها تحفيز تطبيق اتفاقية السلام واستحقاقاتها التي كان من بينها الانتخابات والاستفتاء على مصير جنوب السودان، إلا أن حوافز واشنطون تجاه السودان ربما تتحول بين ليلة وضحاها إلى عقوبات.. كما هو الحال في سمات تلك الإستراتيجية.. رغم تأكيدات مراقبين أن سياسة العصا والجزرة التي تمارسها واشنطون تجاه الملف السوداني قد واجهت خلافاً من دول غربية .
مبعوث الرئيس الأمريكي الأسبق لدى السودان ظل يؤكد أن البيت الأبيض يستخدم الضوابط مقابل تسويات تتم بشأن الملف السوداني بما فيها اتفاقية السلام وملف دارفور.
ويظل دور واشنطون محركاً فعالاً وأساسياً في إطار دفع بعض أطراف الملف، إلا أن علته تبقى في غموضه وعدم وضوح محدداته.
ويدعم هذا الحديث اعتراف “غريشن” المبعوث الخاص الأسبق للسودان، الذي يكتسب أهمية بالغة تكشف النقاب عن جوانب عديدة إذا علمنا أن مبعوث “أوباما” أطلق حديثه هذا في لقاء جمعه بعدد من المنظمات المسيسة، كان من بينها (أنقذوا دارفور).
وإجمال بعض النقاط هنا حول أهداف واشنطون من سياساتها تلك قد يقلل من عتمة موقفها تجاه السودان، وربما لم يخف البيت الأبيض رغبته في تغيير النظام في الخرطوم الحالي أو تعديل سلوكه كنظام بصورة تتماشى ومصالحه حال بقائه على سدة الحكم، بحيث يصبح حليفاً لواشنطون في المنطقة.
ويمكن فهم بعض الجوانب في تلك الإستراتيجية إذا أدركنا أنها بنيت على خلفية التشدد التاريخي حيال الملف السوداني منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.. عندها كان الديمقراطيون أشد قسوة على السودان مما دفع الرئيس “أوباما” للبحث الجاد عن فرصة سانحة لتحسين علاقات واشنطون مع الخرطوم.. فقد أُودعت الإستراتيجية الحالية، التي لم يكشف عن العديد من جوانبها حتى اللحظة، مطابع وزارة الخارجية الأمريكية لأكثر من ثمانية أشهر؛ بسبب تلك الخلفية، وبسبب تباين مواقف قيادات الدبلوماسية الأمريكية في وزارة الخارجية الأمريكية، وبعض الإدارات النافذة حيال الملف السوداني إلا أن شواهد عديدة تؤكد حرص الإدارة الأمريكية حالياً، وقبل حلول نوفمبر القادم موعد الانتخابات الأمريكية على إيجاد وضعية جديدة تمكن دولتي السودان من التعايش في سلام وإبعاد شبح الحرب قدر المستطاع؛ الأمر الذي يدفع باتجاه انتعاش الدولة الوليدة في جنوب السودان ما يحسب في خانة الإنجاز لفريق “أوباما”.