سوق (6) بحي مايو… تقطيع أوصال السلع على حد السكاكين والجيوب الفقيرة
لن يستطيع أحد الرقص على أُغنيات الناس اليومية، إلاّ إذا عرف إيقاعهم جيداً، وكثيرون من المسؤولين لا يفهمون (أغاني الناس)، لذلك تأتي رقصاتهم ناشزة و(مشاترة)، يجلسون في مكاتبهم ويحركون أجسادهم (المدعومة) بهواء المكيفات ووجبات المطاعم الفخمة، ثم يصرحون لوسائل الإعلام بأن كل الأمور على ما يرام، ولكن الحقيقة والوقائع الماثلة تقول غير ذلك، ومن أراد من المسؤولين أن يرقص على (نقارة) البسطاء والفقراء، فليزُر الأسواق الواقعة على منحنيات العاصمة، حينها سيكتشف أنه قد صار راقصاً بارعاً وواقعياً.
وعندما دلفنا إلى (سوق ستة) بمنطقة الخرطوم جنوب (الحزام)، نستجلي أمره، ونخوض غماره، ونستعيد سيرة بداياته الأولى، قيل لنا: إنه نشأ في منتصف التسعينيات كحلقة (دلالة) صغيرة، ومع مرور الأيام اتسعت حتى غدت سوقاً تباع فيها القوانص و(الكمونية) بجانب دلالة كبيرة تتسع يوماً بعد يوم تحتوي على أثاثات مختلفة، وأجهزة كهربائية متنوعة تلتقيك وأنت متجهاً إلى سوق (ستة) من جهة حي عيد حسين، وتمتد الدلالة حتى السوق الرئيسي. أكثر ما شدّ انتباهي الرواكيب التي تجلس تحتها النسوة وهن يقمن ببيع (البهارات والسمن البلدي والمرس والكول واللوبيا والدكوة) في (صوانٍ) معدنية وبلاستيكية.
كل شيء ينقسم على نفسه
عندما توغلت بنا السيارة داخل السوق إلى حيث (دورات المياه العامة)، تعرفت ولأول مرة في حياتي على معنى عبارة (تقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ)، حيث شاهدت الصابون و(الليف) يباعان على طريقة (قدر ظروفك)، يقطعان إلى عدة أجزاء (ربع ليفة، ثلث صابونة)، تعرض على طاولات مرصوصة في هجير الشمس تحت مظلات من رواكيب الخيش المهترئ، ينتظرون زبائن لا يأتون إلاّ لماماَ، زبائن يعملون في ذات السوق في مهن لا تدر ما يلقم الجوع، ويسد الرمق، يقتسمون كل شيء بينهم حتى الصابون والليف.
هؤلاء الذين فاقمت الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد أوضاعهم وجعلتها أكثر هشاشة، لكنهم ظلوا يتحايلون عليها بابتكار أساليب جديدة يتحصلون بها على رزق حلال.
الكوم بقرش و(الدُقة) بلاش!!
وفي جولة (المجهر) بسوق (6) بحي (مايو)، كل شيء موجود، ملابس ربما مستعملة (على خفيف)، أدوات منزلية تغلب عليها المعدنية، خاصة الألمونيوم، أحشاء وأطراف الدجاج، والماشية، والبهارات والعدس والويكة، كلها تباع بوحدات ومعايير وموازين تقليدية وصغيرة، أو بنظام (الكوم)، ولأننا لم نكن نتوقع أن يمارس هذه المهن شباب غض أمامه فرص أخرى، فقد لفت أنظارنا مجموعة من الشبان يبيعون (قطع الصابون الصغيرة) قرب دورات المياه العامة، فسألنا أحدهم ( فضل حجب اسمه)، عن مدى الإقبال على هكذا (سوق) يعتمد في عملياته أسلوب (قدر ظروفك)، أي البيع بوحدات صغيرة بحسب ظروف المشتري (الفقير)، فأكد لنا أن للبيع بهذه الطريقة روجاً كبيراً، بل هي الطريقة المثلى إن لم تكن الوحيدة لتسويق البضائع في سوق شعبية كـ(سوق 6)، وأضاف: كل شيء (قابل) للتجزئة والتقسيم يباع هنا بهذه الطريقة، الكريمات، الصابون، المواد الاستهلاكية اليومية، اللحوم، الأسماك، قوانص الفراخ، البهارات، واستطرد: إذا لم تتبع (قدر ظروفك)، فإنك ستعود إلى بيتك نهاية اليوم ولا شيء في جيبك، وكشف عن أن الدخل اليومي للبائعين بهذه الطريقة يتراوح بين (35 – 25) جنيهاً، وأضاف: أكثر أنواع الصابون شراء هي الصابون المطهر (الديتول)، وأنه النوع المفضل لدى الزبائن، ومضى قائلاً: أنا شخصياً (أركز عليه) في بيعي أكثر من الأنواع الأخرى، ومنذ أن أبدأ عملي في الصباح الباكر، إلى حين عودتي إلى البيت عند المغيب يكون معظم دخلي من صابون (الديتول)، خاصة في أوقات الذروة بين صلاتي (الظهر والعصر) ويوم الجمعة، حيث ما أن ينتهي الناس من أعمالهم حتى يهرعون إلى الحمامات العامة بقطعة (ديتول) و(حتة ليفة)، وأنه شخصياً يشتري (كرتونة) يومياً (كرتونة كاملة) من الصابون، يقوم بتقطيع الصابون الواحد إلى (أربعة أرباع)، ويبيع الربع الواحد بـ( 50 قروش)، والليفة بـ( 10 قروش).
الفقراء يقتسمون الصابونة
غادرنا سوق (6)، والمثل الشعبي الشهير القائل بـ( أن الفقرا اتقاسموا النبقة)، يتحول في ذهني إلى (الفقراء اتقاسموا الصابونة)، وتلك المشاهد والصور الغريبة وطرق البيع حسب الوضع المالي للمستهلك، رغم أنها تمثل حلاً ناجعاً لحصول الفقراء على السلع الأساسية ولو بوحدات صغيرة، إلا أنها تشي بما آل إليه الحال من بؤس وفقر وأوضاع مزرية، هذا رغم أنني لم أتطرق هنا إلى التدهور المريع لبيئة السوق.