أخبار

وتاه الفَجر عن المآذن

الشمس كانت خائفة..
خطى الصباح ذلك الصباح أضحت راجفة
الفجر ذلك الصباح تاه عن مآذن القرى
الشمس كانت خائفة.. الدمع في أحداقها جداولاً جرى
تبكي على أجنّة سيولدون ميتين
مقتولين بالحراب.. بالمدى
ومتخمين لوعة.. أسى..
مآذن المساجد ترُش موتاً أحمراً على المصلين
تموت ألف آية على شفاه من يرتلون..
ما عدت يا محراب آمناً..
غدرت بي.. طعنتني في الظهر إذ أتيت يا محراب
آمناً مصلياً..
{ هل أفصحت هذه الأبيات عن شيء لك – أيها القارئ الكريم – ربما ترى أنها مناحة ارتجلتها أم مفجوعة في بنت وولد ماتا في (حادث حركة)، فالأبيات تتحدث عن موت تُطلقه مئذنة وغدر يأتي من محراب..
هذه الأبيات هي مفتتح قصيدتي (اتكاءة على حد السكين)، ولك أن تتصور أن تغفو ولو للحظة على حافة سكين، وهي (مخدة) وسرير العنق.. وحقاً كانت تلك السكين (السنينة) قد ذبحت عنقي.. في ذلك الصباح..
الصباح كان في 29 مارس 1970م .. لا أذكر تحديداً كيف استيقظت ذلك الصباح، ولكني أذكر أن الوقت كان فجراً.. وأن الخرطوم متوترة الأجواء.. والصراع بين حكومة الرئيس “نميري” وإمام الأنصار السيد الإمام “الهادي المهدي”، رحمه الله، قد استعر جمراً.. وهو ما سُمي سياسياً بقضية (الجزيرة أبا).. وهناك حالة طوارئ مكتومة الإعلان، ولكنها قائمة بكل معنى كلمة الطوارئ.. كنت يومها وقد تخرجت في الجامعة وبدأت مرحلة التمرين في سلك المحاماة.. ثم أصبحت سكرتيراً في مكتب وزير الداخلية الرائد “فاروق عثمان حمد الله”.. وقد بدأت العمل لشهور ثلاثة..
أذكر تماماً أني في ذلك الصباح لم أر شقيقي الملازم ثان “معاوية سبدرات”.. غير أني أذكر تماماً أني وهو كنّا معاً في الليلة الماضية، قد ذهبنا لمأتم قريبة لنا بجبل أولياء.. وعدنا لمنزلنا بحي البوستة أم درمان، هو ذهب تلك الليلة لسلاح المهندسين؛ لأن هناك حالة استنفار، ويقتضي ذلك أن يقضي الليل ساهراً هناك..
خرجت من المنزل دون أن أتناول شيئاً.. كان حلقي جافاً مثل (لوح الزنك)، ولساني مثل حلقي.. وصدري مُنقبض لدرجة بداية الذبحة، وعيوني لا ترى في ذلك الصباح صباحاً.. حالة من الإرباك والارتباك والحزن المكتوم والتحديق في اللاشيء.
وصلت مكتب وزير الداخلية حوالي .. ربما قبل السابعة بقليل.. الشرطة تملأ كل مكان.. حالة وجوم شديدة على الأوجه.. بعضهم تجمع حول (راديو) على منضدة الاستقبال.
دخلت المكتب ولم ألحظ أنهم جميعاً كانوا ينتظرون حضوري!! لم ألحظ الدمع المكتوم على أجفانهم.. لم ألحظ الارتباك الذي جثم على شفاههم، فكسر فيها القدرة على انفراج في الجباه أو مشروع كلام.. كنت مثل المحكوم عليه بالإعدام، وقد علقوا أنشوطة الحبل بعنقه، كنت مخدراً تماماً لدرجة الإغماءة العميقة.
جلست على مقعدي وحدقت في الذين في المكتب.. سألت بصوت مخنوق عن ماذا يحدث وماذا حدث ليل أمس!! لم أكن أعرف أن في هذا الصباح قد حدث فعل جلل..
تطوع أحدهم وناولني ورقة فيها عدد من الأسماء.. وقال وكأنه لا يريد أن يقول .. (ديل الشهداء الذين قُتلوا هذا الصباح في “ودنوباوي”) لم أسمع الجزء الأخير من حديثه.
الورقة تقول رُتبة الشخص.. مقدم فلان.. رائد.. ملازم فلان، الورقة كانت دافئة جداً أقرب إلى أن تكون ورقة مُحمّرة (أو مسلوقة) عافت أصابعي ملمسها الخشن الجاد.
بدأت بالمقدم “محمد الحسن جنكيز”.. قرأت اسمه وشعرت بوخزة في الأُذين الأيمن من القلب.. سالت دمعة شقّت وجهي نصفين.. وجثم الحزن على رقبتي لدرجة الاختناق.
بدأت أقرأ الأسماء.. أقرأ كل اسم واسأل عنه!! ثم قرأت ملازم “معاوية صالح سبدرات”.. لم أستوعب الاسم.. تجاهلته، و(رُحت) أبكي على الاسم الذي بعده.. ثم أعيد القراءة من جديد.. يأتي اسم ملازم “معاوية صالح سبدرات”.. لم أنتبه لهذا الاسم ولم أعرف من هو!! الجميع في المكتب كانوا في دهشة بالغة.. كيف لا أتعرّف على شقيقي القتيل.. وكلهم يخاف تنبيهي.. لأستوعب الأمر.. ولم يجرؤ أحد أن يقول لي (انتبه!!).
أصبحت الساعة الحادية عشرة صباحاً.. الورقة أمامي مُسجّاة كجثمان لا أهل له.. حالة (البَنْج) التي تقمصتني مستمرة.. وليس بين الحاضرين من يملك أن (يُفوِّقني) من هذا التخدير كثيف الجرعة..
فجأة صَرخ (تلفون) كان على الجانب الأيمن من المكتب.. تلفون أسود اللون ضخم الجثة متحشرج الرنين.. رفعت السماعة.. السماعة كأنها عُود طلح أشعلت فيه النار كل ضراوتها وشهيقها وتغيظها.. رفعت السماعة عن صدر التلفون.. (ألو.. نعم مكتب وزير الداخلية؟ “سبدرات”؟ نعم .. كيفك؟.. الحمد لله.. لكن “جنكيز” استشهد ومعه.. و.. و.. ملازم “معاوية صالح سبدرات”.. و.. و…) بدأت أسرد الأسماء وهو يستمع.. المتحدث كان السيد “مصطفى عوض الله” شقيق مولانا “بابكر عوض الله”.. فجأة وبعد برهة صمت من “مصطفى” سألني: (معاوية دا .. يا عبد الباسط….) لم أسمع بقية السؤال..
وقع اسم “معاوية” في أذني مثل صاروخ (توم هوك).. وقفت.. وقف كل الذين بالمكتب وهرولوا حولي.. الفاتحة.. الفاتحة.. الفاتحة.. يدي تتنقّل بين أيديهم كقطعة خشب.. ولا أسمع من كلمة الفاتحة إلا (تِحة) عانقني أحد الضباط أظنه “عبد الغفار نميري”، بل مؤكد أنه هو..
وجدت نفسي أخرج من عربة وأدخل مشرحة بالسلاح الطبي، جثث الشهداء على أرض المشرحة.. دم يغرق في دم.. الموت بشع القسمات والجراح.. ملابسهم العسكرية مليئة بالطعنات.. عيونهم مُغمضة بإصرار من يريد أن يموت وقد نطق الشهادتين.
بحثت بين الشهداء عن “معاوية”.. وجوههم جميعاً رأيتها وجهاً واحداً.. لم أفرق بينه وزميله الملازم.. نسيت اسمه.. الآن.. جاء (صول) وأمسك يدي وأرشدني لجثمان شقيقي.. رأيته.. لمسته..
(دمُه كان دافئاً كجسد العروس..
دمُه صار بارداً مثل برودة النصل إذ يغوص
في الأحشاء..
دمُه قال للشريان لا..
أنا حليب الأرض يا شريان لا..)
{ كان مشهده رهيباً ذكرني فعل وحشيّ مع “حمزة” الشهيد يوم أحد..
(أنا حملته حملت ألف فأس ألف سكين وآه..
ضممته فضمّني معانقاً بكل سكين على ضلوعه..
ظهره كان غابة من الجراح..
صدره بحر دم.. وحليب ونواح
جراحُه تكفي لعشرين فتى
لكنه على حد السكاكين، اتكأ وما وقع..
قبلته فردّ قُبلتي بقبلة مفاجئة.. كالموت
حين فجأة يجيء من وراء الظهر من وراء
وحين فجأة يغوص ألف نصل دونما استئذان
في الأحشاء..)
يد (الصول) القوية (جرتني) وأخرجتني من المشرحة.. كأنه أحس أن جثث الشهداء تحرّك فيها النزف من جديد.. يسبب بكائي المقهور بالفجيعة والكارثة..
أدخلني لغرفة.. لأغسل يدي.. هل كان فيها رطل دم علق بها وأنا احتضن الشهيد.. ربما..
ماذا أفعل.. أنا وحيد بين كارثة وكارثة وآزفة وحاقة ومصيبة ووِحْدة.. أهلي هناك ما يزالون في فراش ذلك المأتم الذي ذهبنا لنحضر فيه (دفن) الجنازة.. ثم كيف أنقل إليهم النبأ المهول الوقع.. كان راديو أم درمان وقتها لم يسمع الناس النبأ.. إذن أنا من ينقل النبأ..
دخلت.. وأجلسوني في المقعد الخلفي للعربة.. أحضروا لي ماءً بارداً لمسته فوجدته حاراً ولونه لون دم.. كأني من بني إسرائيل والابتلاء بالدم.. تجرعته ولم يسغني ناهيك أن أسيغه.. ناولوني (ساندوتش).. أنا جائع كفأر في مزرعة قطط.. (حلفوا) يميناً غليظة أن آكل ولو (قضمة) واحدة.. حاولت.. قضمت حجراً من قرانيت (فرساي)..
العربة تقترب من جبل أولياء حيث أهلي هناك لا يعرفون النبأ (السكين).. العربة وصلت قرب مكان (الفراش).. الناس على وشك (رفع المأتم).. رأوني أنزل من العربة.. ظنوا فيّ خيراً.. جاء يحضر رفع فراش عمته.. هكذا التواصل، وهكذا يرث الأبناء مجيد فعل الآباء.. قبل أن أصل تماماً لأقول النبأ الصاعق.. تذكرت كيف أن كثيراً ممن في المكان كانوا قد شهدوا تخريج الملازم “معاوية” قبل أربعة أشهر.. فقط .. وأنا أجيء لأنقل خبر تخريج للدار الآخرة!!
(أذكرُ حفل تخريجي الفتى..
كان في وجهه الفرح الغامر.. الحزن المهيمن.. الرضا
وحينما شاهدتُه يوم على حد السكاكين اتكأ
كان في وجهه الفرح الغامر.. الحزن المهيمن.. الرضا..
كان جميلاً.. أجمل الموتى
أكثرهم جراحاً وحزناً ورضا..
الشمس كانت خائفة
الشمس صارت زاهية
الفجر عانق المآذن الجريحة
الفجر في جُرح الشهيد اتكأ)..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية