البجراوية..حكايات كفاح من اجل (لقمة العيش) بين الاطلال والحضارات
البجراوية ـ هبة محمود
لم تقف قسوة المنطقة وصعوبة تضاريسها وخلوها من أبسط الخدمات، حائلاً بينهم وبين ممارسة مهنتهم التي ألفوها وألفتهم، وكأن (البيع) هناك يغذي رغبتهم في الحياة، وكأني بهم (يروضون) حواسهم على التوافق مع طبيعة المكان، غير آبهين بالتبدلات التي طرأت على الدنيا.
لم يكن الباعة وأصحاب المهن بمختلف بضائعهم وتنوعاتها داخل منطقة (البجراوية)، وأولئك المصطفين على جنبات بوابة (المدينة الملكية) يعملون لشيء، سوى التعريف بهوية وثقافة الحضارة السودانية، وتقديم تذكار يعود به الزائر أدراجه، وذلك من خلال معروضاتهم المختلفة والمتنوعة، والتي يغلب عليها الطابع الأثري البحت، إلا من بعض الصناعات اليدوية الصغيرة كالحلي المصنوعة من (السكسك) أو (الخشب) بجانب بيع الآيسكريم (الدندرمة)، فيما تتسيد الموقف (الأهرامات الحجرية) الصغيرة المصنوعة يدوياً بمقاساتها المختلفة، إلى جانب العملات الورقية والمعدنية، حيث أنها تحتل المرتبة الأولى بين قائمة المهن والمشتريات.. فضلاً عن مهنة ركوب (الجمال) التي يتولى القائمون على أمرها (تطواف) السياح بين الأهرامات في مشهد ترفض الذاكرة الاسشتفاء منه. (المجهر) وقفت على بعض المهن خلال زيارة خاطفة لمنطقة البجراوية، خلال التقرير التالي.
قصة كفاح
لأكثر من عشرين عاماً ظل العم “الهادي على عبد الله” يزرع الأرض جيئة وذهاباً بين سكنه في منطقة (كبوشية) وبين (البجراوية) ليمارس مهنته التي نشأ عليها، مما دفعه لشراء (تكتك) ليسهل عليه مهمته، وهو يقدم للباعة أفضل ماجادت به (طاولته) التي أختار لها بالقرب من البوابة المؤدية لداخل الأهرامات مكاناً لها، مؤكداً لـ(المجهر) على أن العائد الذي يحصل عليه يعد مناسباً له، لافتاً إلى أنه اعتاد المجيء بشكل يومي خلال فصل الشتاء، وهو الفصل الذي يعد بحد تعبيره الأفضل للسياحة، حيث تكثر فيه الأفواج السياحية للمنطقة، بينما يختار الجمعة من كل أسبوع توقيتاً لحضوره في الفصول الأخرى، نسبة لقلة الإقبال على المنطقة.
على طاولة “عم الهادي” كانت آلة الطنبور المصنوعة يدوياً، تشكل حضوراً أنيقاً ومزيجاً فريداً بين حداثة الصنع وقدم الآلة الضارب في مورثات الإيقاع السوداني، وهي تتوسط بقية الأشياء الأخرى التي يغلب عليها الطابع الأثري في طاولة (عمنا الهادي)، حيث بعض العملات الورقية والمعدنية القديمة التي ترجع إلى عهود بعيدة، والتي بحسب محدثي فإن العثور عليها يكون من قبل (الناس الكبار) بينما يحصل على البعض من السوق، هذا يجانب المصنوعات اليدوية والحلي المصنوعة على شكل المشغولات التي تماثل ما كانت ترتديه (الكنداكات) إبان الحضارة الكوشية، لتذخر بذلك طاولته بالكثير من المشغولات التي تحاكي هيئة الثعبان وهو ما كان رائداً ورائجاً وقتذاك.
الطنبور وقدح العود
وقف العم الهادي صاحب الستين عاماً بجانب طاولته، بسرواله وعراقيه القصيرين، و(سديريه) الرمادي، منتعلاً حذائه الجلدي، معتمراً عمامته، وبين يديه آلته (الطمبور) مستقبلاً الزوار بنغماته، في عملية ترويجية لطاولته يحسد عليها مؤكداً لـ(المجهر) أنه أكثر ما يعجبه في مهنته تلك هو التعريف بـ(الحضارة السودانية) من خلال ما يبتاعه للناس، لافتا إلى وجود عملات منذ العهد التركي والحكم الثنائي وعملات منذ عهد المهدية.
في سياقه أكد محدثنا على أنه طيله سنواته العشرين التي ظل فيها بمنطقة البجراوية، لم يعرف حتى الآن ما الذي يعجب السياح ويقبلون عليه، قائلاً:(أنا واحد وعشرين سنة هنا، لحدي الآن ما عرفت البشتروه شنو، السياح بحبو أي حاجة، الطنبور ـ قدح العود ـ الأشياء التراثية).
بالقرب من عمنا الهادي وقف الطفل محمد نجم الدين، صاحب الأربعة عشر ربيعاً، بقسماته الحلوة التي أخفتها أشعة الشمس وأتربة الصحراء، وهو يمارس مهنتة التي نشأ عليها مع أسرته، وهي البيع بجانب أهرام البجراوية، يفترش عدداً من الأهرامات الحجرية الصغيرة المتنوعة الأحجام التي قام بصناعتها، بجانب بعض المصنوعات التراثية مثل (حُق القرمصيص) الخشبي، وطواقي السعف المصنوعة يدوياً، مؤكداً لـ(المجهر) أن عمله لا يعيق دراسته في شيء، حيث أنه يدرس بالصف السابع، ويعلم عن (كوش) كثيراً، لافتاً إلى أنه تعلم صناعة الأهرامات الحجرية من خلال تقليده لمن سبقوه، حتى صار يتقن الصناعة جيداً.
تنافس جميل
لم تقتصر تجارة البيع والشراء على الأشياء التراثية والمشغولات اليدوية والأهرامات الحجرية الصغيرة، والتي يكثر الإقبال عليها بحسب (المشترين)، لكن هناك مهنة لا يمثل عنصرا البيع والشراء أهم مقوماتها، وهي مهنة (ركوب الجمال) والتي تشكل عاملاً ترفيهياً وسياحياً أكثر من أي شيء، فما رصدته (المجهر) هو إقبال الكثير من السياح الأجانب، وكذا السودانيين خاصة الشباب على ركوب الجمال وعمل تطواف سريع وجميل بين الأهرام بصحبة مالكيها.
داخل أهرامات البجراوية يصطف عدد من مالكي الجمال، وهم يتنافسون فيما بينهم، عبر مناداتهم على المقبلين، كل يروج لناقته واصفاً (سرجه) بالمريح. وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار إلى مبلغ (30) جنيه للطواف، إلا أن جمالية المشهد وروعة الذكرى تظل أكبر وأعمق من المبلغ، سيما أنهم أي ـ مالكوها ـ يعملون تحت حرارة الشمس ورهق الصحراء ليقدموا المتعة والترفيه للمواطنين.