أخبار

خربشات

عادت السيدة الحسناء إلى قريتها وفي عينيها دمعات جفت لفقدان زوجها في حادثة غرق المركب النهري في أقاصي الشمال، فرضت عليها ظروف وحدتها وتشييع جثمان زوجها الراحل، أن تكسر الموروث من الدين بالسكون في منزلها لمدة أربعة أشهر تعرف بشهور الحبس الاضطراري لكل امرأة مات زوجها وهي دون السبعين من العُمر.. ويوم وصولها القرية هبت النسوة لعناقها .البكاء بألم وحُرقة على الفقيد الذي لم ترَه أي من الباكيات عليه حيث تزوجته في الغربة، كان والدها يعمل في وظيفة (محولجي) بمدينة عطبرة.. مسؤولاً عن الإشارة لتوقف القطار وكل أمنياته في الدنيا أن يُحظى بترقية استثنائية تضعه في مرتبة (كامسنجي) في قطار العربة، خدعه بعض العمال النقابيين للمشاركة في إضراب عام لعمال السكة حديد، وحينما نفذ الإضراب اتخذت الحكومة قرارات بفصل قادة الإضراب ووضعهم في السجون بأمر “جعفر النميري” حاكم البلاد العسكري.. ومات الرجل في السجن وتعرضت الأسرة للتشرد، احترفت الأم صناعة (الجعة البلدية) المريسة ، في كنابي مشروع سُكر كنانة.. والابن الأكبر ابتلعته الصحراء الليبية في هجرته نحو بلاد العقيد “القذافي” حينذاك، أما كبرى البنات فقد تزوجت من “عثمان الحداد” ولم يَطِب له المقام في كنابي مشروع سُكر كنانة، وكانت هجرته لمنطقة تنقاسي بالشمالية ليلقي حتفه في حادثة سقوط المركب، وقد نجا معظم أهل المنطقة من الشباب لإجادتهم السباحة لكنه مات.. وحصلت زوجته على تعويض من ملاك البنطون بعد جلسات تطاولت لمحكمة القرير التي نظرت في دعوى رفعها المحامي “علي طه” نيابة عن أسر الضحايا.. وكان قريباً من أرملة الراحل “عثمان” طلبها يوماً لتأتي إليه بمكتبه في وقت متأخر من مساء الخميس.. راودته نفسه الاقتراب منها.. لكنه تذكر أنها موكلته.. قدم إليها طلباً للزواج سراً خوفاً من بطش زوجته لكنها رفضت الزواج سراً وعلناً.
(2)
جلس “آدم كركاب” لوحده يتأمل نجوم السماء الصافية، وقد هبت رياح الصعيد الباردة.. صاحت الأبقار.. وأشعل الشباب النيران في القصب الجاف حول المنازل.. جفف “كركاب” عرق جبينه بطرف ثوبه.. وأخذ يدندن بصوت مع أغنية:
برأي سويتها في نفسي
قلبي الحبه ما واعي
عشق زولاً مجافيه
وما كان للحصل داعي
خطاباتي البوديها تقول لا بتمشي لا حاجة
قالها بصوت عالي ينصر دينك يا وردي.. ضحك “عثمان بابو” يا جماعة “كركاب” بتكلم براه؟
والله قروش دار صباح دي بتسوي شيء عجيب.. نهض “كركاب” من سريره ودخل على زوجته “كلتوم” التي كانت تستغل ضوء القمر في (صناعة برش) بما يعرف بـ(الضفرة) أي نسج أوراق نبات السعف لتصنع منها البروش البلدية، وسألها عن وجبة العشاء.. فقالت العصيدة جاهزة، لكن السُكر ما في لشاي الصباح!!
تجمع أهل القرية في منزل الشيخ “هارون” .الصبية حملوا أقداح العصيدة إلى الضرا.. يتشابه طعام القرية ويختلف مذاق الملاح تبعاً لجودة وإتقان بعض النساء للطباخة.. وإهمال أخريات.. يتم وضع أواني الطعام في شكل دائري وينصرف الصبيان الصغار لأمهاتهم لتناول وجبة العشاء . كل القرية طعامها عصيدة الدخن، أو الذرة وأربعة أصناف فقط من (الملاح) إذا كان رب البيت حاله ميسورة ملاح التقلية بالروب أو بالسمن أو زيت السمسم أو ملاح الشرموط الأبيض.. أو الويكاب.. واللويبا أو مطعينة أو الكمبو والكول الذي عادة ما يفضل تناوله في وجبة الإفطار وليس العشاء.
أخذ رجالات القرية في التوافد نحو (الضرا).
بعد أداء صلاة المغرب جماعة في المسجد والعودة للبيوت ثم الجلوس في (الضرا) تبادل الأخبار الصادقة والكاذبة بتأني.. أستاذ “موسى” يتأبط راديو ترانزيستور، وقد صنع له جلباب من القماش لحماية راديو القرية من الأتربة، سأله “عثمان”
يا “موسى” أخبار البلد شنو الليلة؟ أم درمان قالت شنو ولندن وصوت أمريكا؟.. وقبل الإجابة على مثل هذه الأسئلة التي اعتاد أستاذ “موسى” عليها يومياً باغته “أحمد القصاري”.. سمعنا قالوا البترول طلع والحكومة قررت تخفيض أسعار السكر والشاي؟ قاطعه آخر يا راجل تخفيض شنو.. الحكومة تخلينا في حالنا.. سأل آخر يا جماعة الزكاة والضرائب بتمشي وين؟ “موسى أحمد” أستاذ في مرحلة الأساس يجيد الأنس ويحظى بثقة كل أهل القرية لاستقامته وهو الوحيد من الشباب لا يدخن التبغ ولا يشرب المريسة ولا يذهب للمناطق المشبوهة.
قال بصوته الناعم أمس إسرائيل قررت الانسحاب من الجولان.. ومنظمة التحرير الفلسطينية أطلقت صواريخ على منطقة رفح وقتلت ثلاثة من المستوطنين اليهود، والولايات المتحدة هددت العرب باستخدام حق الفيتو، قاطعه “أحمد القصاري”.. “موسى” أخوي حق الفيتو دا شنو؟ تكلم معانا بالعربي كلام الخواجات نحنا ما بنعرفوا.. لا.. لا يا “أحمد” نحن ما عندنا قضية بالعرب يموتوا.. يقتلوا إسرائيل ..يا أخي العرب ما عندهم فايدة الأسبوع الماضي ضربوا “عائشة إسحق” في رأسها وإبلهم وغنمهم قضت على زرعها تماماً.. إسرائيل ليها حق العرب بيأكلوا حق الناس..
يا جماعة إسرائيل دولة معادية، والعرب اغتصبت أرضهم، وتم احتلال المسجد الأقصى.. والعرب الرُحل ما عندهم علاقة بالعرب في الأراضي المحتلة..
“أحمد القصاري” يا “موسى” العرب كلهم واحد، لو في إسرائيل أو في حلة دهب.. يأكلون زراعة الناس ويضربون النساء.. مبروك على إسرائيل تطلع زيتهم.
(3)
اعتدل أستاذ “موسى” في جلسته وقال بصوته الناعم يا أخوانا العرب الموجودين في السودان ما عندهم علاقة بالجزيرة العربية ولا فلسطين.. ديل ناس مساكين ساكت وإسرائيل دولة معتدية على أرض المسلمين واجبنا نحن كمسلمين وتجانية مناصرة أخوتنا المسلمين سواء كانوا عرباً أو غير عرب.
“أحمد القصاري” نعم نحن المسلمين يجمعنا معهم الدين لكن العرب ما عندنا بيهم مشغلة، أنظر إلى المزارع التي تعرضت للنهب من قبل العرب الأبالة بصفة خاصة.. وقال أستاذ “موسى” إن القوات الحكومية تصدت اليوم لهجوم من قبل المتمردين على منطقة مريدي وقتلت عشرين من المتمردين واستولت على أسلحة وذخائر.
والله يا جماعة لولا الحكومة كان المتمردون دخلوا الأبيض.. “أحمد القصاري” يا زول الأبيض ما لعب والله فيها جيش يجيب ليك خبر إسرائيل ذاتها أنت قايل الجيش بتاعنا ساهل؟.
أستاذ “موسى” طبعاً يا جماعة الرئيس بعد انتصار الجيش على المتمردين في مريدي قرر وقف إطلاق النار لمدة شهرين “عثمان دهب” ليه الرئيس يعمل كدا؟.. شوفوا يا جماعة الجنوبيين ديل الحكومة ما قصرت معاهم عينت منهم سفراء ووزراء وضباط في الجيش ومدرسين وعمارات وقروش.
طيب قاطعه “فكي عبد المجيد”: المتمردين دايرين شنوا؟ أستاذ “موسى”: يطالبون بتغيير النظام، “مكي عبد المجيد” الرئيس محفوظ بأدعية التجانية وصلوات الأنصار ولن يستطيع أن ينال منه أحداً.. يا جماعة قوموا العشاء خلونا من السياسة.
وحتى الأسبوع القادم..

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية