أخبار

خربشات

(1)
يبعثر المرء أحياناً أوراقه القديمة ودفاتره المهترئة والكُتب التي يبست أوراقها.. وأصفرت صفحاتها.. وغدت منسية في أرفف المكتبات.. اتكأت يوم أمس على أرقام الهواتف في كراستي التي تقبع في طاولتي.. تأملت في الأسماء.. رحلت عن دنيانا.. نجوم كانت وأقمار توارت.. وبقيت أرقامها محفورة في الورق لا يمكن الوصول إليها.. ارتعشت حروف الكيبورت ولم أقاوم الحزن الدفين حينما قرأت اسمها “عفاف بخاري” رقم هاتفها ينتهي بالرقم (46) طافت في مخيلتي سنوات اندثرت وأحلام طواها الزمن.. وزمالة مورقة.. أخت كريمة الخصال.. عفيفة.. جميلة.. المخبر والمظهر.. عليها سمرة.. ناعمة.. ووجه صبوح.. ورقة إحساس وومضة خاطر.. كانت صحافية لها طعم.. حفرت بأظافرها لاسمها.. ولم تتكئ على اسم الأسرة الكبيرة عائلة “بخاري” التي جاءت من الشمالية واستقرت في دار حمر بكردفان، ونالت شرتاوية في أم بل حيث الشرتاي “الكرسني” وأطلق اسم “بخاري” على قرية السعاتة “بخاري”.. ومنها كان نجم الدبلوماسية في ثمانينيات القرن الماضي “صلاح بخاري” سفير السودان بالقاهرة.. وكان نجم الثقافة والأدب والشعر الزميل الراحل “مهيد بخاري”.. لماذا يرحل المبدعون مبكراً ونجتر ذكرياتهم ونقرأ أشعار مثل قول “حميد” في نخلته التي ما هي “عفاف بخاري” أطول نخلات الصحافة.
ذي نخلة في الليل المهول
كانت بتختبئ الفصول
كانت بتمتحن الرياح كل ما تطول
والدنيا خوف عابر سبيل
يشوف عنف الرياح في النخلة
ولا النخلة في عنف الرياح
في ليل مهول.
غابت عنا “عفاف بخاري” للأبد في عز الشباب وحلاوة الصبا.. رحلت وتركت رقم هاتفها في أوراقنا القديمة ودفاترنا وذكريات لا يمحوها الزمن.. رحلت مثل “غازي الصادق عبد الرحيم” وزير الإرشاد وابن قبيلة (خزام) التي تدعي وصلاً بالبيت النبوي مثل سائر أهل السودان من العرب والعرب المستعربة.. جاء “غازي الصادق” إلى الوزارة من حزب الأمة القومي بعد انشقاق “مبارك الفاضل” بعد أوبة جيبوتي الشهيرة.. وتوسد “غازي الصادق” الصدوق تراب مدينة تلودي الذي ذهب إليها في يوم عيد سعيد، إلا على أسرة وعشيرة (خزام) الذين فقدوا في ذلك اليوم فتى غريراً.. من أهل الجنة.. باسماً هاشاً كريماً.. عاد إلى تلودي كأنه يتقفى أثر جده “الأمين الرفاعي” كاتب الناظر “محمد حماد أسوسه” حينما كان من يكتب ويفك الخط في تلك الديار لا يتعدون أصابع اليدين والقدمين.. لم يمكث “غازي الصادق” طويلاً في هذه الدنيا ورحل في حادثة سقوط الطائرة الانتنوف على صخر جنوب المدينة التي امتلأت رعباً من دوي سقوط الطائرة، أما رفقاء “غازي الصادق” الآخرين فالحديث عنهم يبدأ بـ”مكي بلايل” ولا ينتهي عند “عبد الحي الربيع”..
(2)
في دفتر الأحزان يقفز اسم “عادل حسن البلالي” الإنسان الرقيق الزاهد.. جاء للدنيا.. لا يملك مالاً ولا بيتاً.. ومنحته الوظيفة في شركة شيفرون الأمريكية الكثير لكنه أنفق ماله في خدمة الناس.. انتمى للصحافة من نافذة كردفان ورحل عن الدنيا وفي حقيبته مقالاً عن كردفان وحواراً مع شخصية كردفانية.. في يوم رحيل “عادل البلالي” ذرف كل الناس الدموع. وأرسلوا الآهات.. لم يترك من ورائه بنتاً ولا ولداً.. ولا عربة.. ولا بيتاً حتى من الجالوص.. ولا حسابات في البنك.. خرج من الدنيا مثل يوم ميلاده في منطقة غبيش بغرب كردفان ناحت القماري… وأطلق طائر البوم صيحته والدينكا يعتبرون صيحة البوم نذر شؤم وصوت الغرنوق نذر سعد وتقرأ في دفتر الأحزان رقم هاتف “فتحي شيلا” المناضل الجسور والوطني الغيور والاتحادي الوافر ضراعو في خدمة الوطن.. بعد أن شعر بحالة السيولة التي يعيشها حزب التجار والموظفين والطبقة الوسطى.. لم يخف من تقرير مصيره وقطع المسافة بين بحري الختمية وحوش د.”نافع علي نافع” بشارع المطار أو النادي الكاثوليكي كما يناديه بعض الشائنين المباغضين أو الحوش (الأخيدر) كما يقول بعض العسكر غير المرتاحين لوجود الحزب.. وهناك في دار الوطني تفتقت عبقرية “فتحي شيلا” الإنسان و”فتحي شيلا” السياسي البارع لكنه رحل فجأة مثلما رحل “بابكر الشريف” الذي ينتهي هاتفه بالرقم (75).. خرج “بابكر الشريف” من القصر حيث الطائرة تقوم والرئيس (لا ينوم)، وهل هناك رئيس يستطيع النوم في بلدٍ متقلب الأمزجة وتنتاشه العواصف الترابية في كل حين.. واختير منصب المعتمد في أبو جبيهة بجنوب كردفان.. ولم يعمر طويلاً في ميادين السياسة ودروب التنفيذيين.. طالته التغيرات فعاد إلى القصر قريباً من دفته في مراسم الدولة “محمود”.. و”أحمد”.. و”ضياء الدين” وكبيرهم “عاطف”.. وبيد أن الموت باغته.. ورحل.
أقيف يا الطيف أقيف أرجاني
وين فايتني عابر..
شن حارس وراك أنا تاني
ياني معاك مسافر.
وحزم حقائب الرحيل سراً.. ومات “بابكر الشريف” وتركنا من بعده.. نتجرع كاسات المُر..
(3)
هناك أرقام لا يمكن الوصول إليها ولكن أصابها ما بين الموت والحياة.. خرجوا من هنا.. ولم يصلوا هناك مثل “بلة حارن كافي” مستشار سابق في حكومة جنوب كردفان تم إيداعه سجن الأبيض منذ سبع سنوات بعد القبض عليه يحمل سلاحاً أو أسلحة غير مخول له حملها.. قبل قرار نزع الأسلحة.. وقبل جمعها وقبع “بلة حارن” في السجن بشجاعة.. وكبرياء. انفض منه الذين كانوا في حزبه من الحركة الشعبية والذين كان هو جندياً في صفهم من الإسلاميين الوطنيين، وتخلى عنه المشجعين له ليخوض الانتخابات في دائرة القوز ويوم أن خسر المعركة.. هرولوا بعيداً عنه بل في يوم الكريهة.. واندلاع الحرب وكتمت ستة ستة أنكر الرجال في رابعة النهار الأغر انتماءهم وهرولوا نحو المؤتمر الوطني الذي كان خصمهم، وبعد أن عين “بلة حارن” في حصة الحركة الشعبية جناح “دانيال كودي” و”تابيتا بطرس” هرعوا إليه ينظفون أحذيته.. ويعتذرون عن هروبهم يوم الهروب من المصير.. فأصبح “بلة حارن” اليوم سجيناً في الأبيض ينتظر رحمة السماء وعفواً رئاسياً يفض عليه بسمة في شفاه أطفاله.. وبلسماً يشفي جرح أمه المكلومة ولا يزال الأمل والرجاء باقياً في الرئيس “البشير” لإطلاق سراح “بلة حارن” حتى يعود للحياة مرة أخرى.. وبين الذين لا هم في عداد الموتى والمفقودين نقرأ في أرقام “علي كوكو” و”مالك عقار” واللواء “مجاك” نائب مدير جهاز الأمن السابق.. ولكن فواجع الموت عديدة.. ورقم هاتف “داؤود مصطفى” القلم الهلالي الرزين الجميل ورمز الوفاء للشعار النبيل والشموخ والكبرياء في زمن التكسب بالحبر الرخيص.. كان “داؤود مصطفى” نسمة في صحراء الصحافة الرياضية.. وكان شامة في خد الزمان الشين.. وكان هلالياً رقص لتطريب تنقا للوتر.. وتمايل مع “جعفر عبد الرازق” الذي كان كالسكين الساخنة على الزبدة يقطع أوصال دفاعات الأندية.. كان “داؤود مصطفى” صحافياً عاشقاً للهلال لا مغرماً ولا عابداً لجيوب الإداريين نصف المتعلمين.. وكان الهلال في زمان “داؤود مصطفى” يقوده البابا “الطيب عبد الله”.. وقاهر الظلام “عبد المجيد” والإنسان النظيف العفيف “طه ود البشير” والجعلي الجسور الشاعر الأديب “صلاح إدريس” قبل أن يصبح الهلال نفسه شركة من شركات (الكاردينال).. ونحن بالصبر قانعون.. وبالحزن قانعون ولا نلمك إلا القول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية