صورة الأزمة
عدت مساء أول أمس (الاثنين) من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.. خرجت من المطار إلى سوق نمرة (2) للحصول على الصحف التي حرمنا منها لمدة أسبوع في شرق دارفور وأسبوع آخر في إثيوبيا.. فإذا كانت صحافتنا لا يمكنها الوصول للضعين وشعيرية وعديلة، فهي أعجز عن الوصول لبحر دار وأديس أبابا رغم أن الجالية السودانية هناك أكبر من الجالية الإثيوبية في بلادنا.. وفي الفترة الأخيرة بدأت هجرة الرأسمالية السودانية، وحتى صغار التجار يهربون من جحيم الداخل إلى جنة متخيلة في الخارج جراء الأوضاع الاقتصادية بالغة السوء.
في سوق نمرة (2) حصلت على الصحف اليومية، ولكني فشلت في سداد قيمتها.. فأمهلني صاحب المكتبة لوقت آخر.. اتجهت من الخرطوم لأم درمان.. طائفاً على الصرافات أمني نفسي بمائة جنيه فقط لشراء خبز حاف وقطعة حلوى لإضفاء بسمة على وجه طفلتي الصغيرة “مآب”.. وفشلت في كل الصرافات على الطريق من الخرطوم حتى شارع الوادي أم درمان، أكثر من عشر صرافات والنغمة واحدة (عفواً لا يمكن تلبية طلبك أسحب البطاقة) وعشرات المواطنين يبحلقون في شاشات الصرافات طمعاً في مالهم الذي أودعوه المصارف وبات عصياً عليهم الحصول عليه.. وبنك السودان ينشر إعلاناً في صحف الأمس واليوم يكذب فيه أخبار الـ(واتساب) والـ(فيسبوك) التي تقول إن قراراً قد صدر بحرمان المودعين وزبائن البنوك عن حقوقهم في السحب.
لم استخدم تعبير (عملاء البنوك) لأن صفة عميل لا تليق بصديق البنك أو زبونه.. وأمس رغم الإعلان الذي يزين صفحات بعض الصحف تطاولت صفوف المواطنين أمام بوابات البنوك يطلبون سحب أموالهم ربما تصديقاً لشائعات الـ(واتساب) كما يقول بنك السودان، وهي شائعات يصدقها واقع الصرافات الخالية من النقود.. ويزيد النائب العام الوضع قتامة حينما يقول في خبر نشرته كل الصحف ووسائل الإعلام أن الحكومة ضبطت اثنين من المتهمين قادمين من مصر بحوزتهما مبلغ (315) ألف جنيه من العملة المزيفة فئة الـ(50) جنيهاً ويقول النائب العام “عمر أحمد محمد” إن هناك مبالغ مالية تقدر بمئات الملايين من فئة الـ(50) جنيهاً قد تم تزويرها، وأطلق تحذيراً للمواطنين بأخذ الحيطة والحذر في التعامل مع فئة الخمسين.. هل مثل هذا الإعلان والتحذير الصادر من أعلى سلطة عدلية في البلاد يزيد الوضع قتامة ويفرخ مزيداً من الشائعات ويبدد ثقة الناس في عملتهم الوطنية؟ أم يخدم الاستقرار الاقتصادي في شيء؟ وهل النائب العام هو الجهة التي يحق لها إطلاق مثل هذا التصريح الذي يجعل الثقة في العملة الوطنية في أسفل سافلين و(يخلق) أجواء شكوك جديدة في الساحة الاقتصادية المضطربة؟!
وبعد ذلك تأتي الحكومة وتقول كل (شيء تمام)، الأوضاع الاقتصادية تحت السيطرة، وإن الدولار سينخفض خلال أيام معدودة.. ويسود الفرح الغامر المسؤولين عن البلاد لمجرد أن الدولار أصبح يعادل (34) جنيهاً سودانياً بدلاً عن (40) جنيهاً الأسبوع الماضي، علماً بأن الجنيه الحالي منزوع الأصفار والقيمة الحقيقية للدولار الواحد هي إضافة ثلاثة أصفار شمال القيمة الحالية.
إن الأزمة الاقتصادية الحالية ساهمت الحكومة بقدر وافر في صناعتها من العدم حينما تعاملت معها بلا مبالاة وأطلقت تصريحاتها المنافية للواقع.. وفي كل يوم تصدر أقوال من الحكومة تهزمها، وقد أفلحت المعارضة في (خلق) مناخ قاتم تسيطر عليه أخبار الـ(واتساب).. ولا يملك الجهاز السياسي في الحكومة المبادرة لتصحيح الصورة ومخاطبة الرأي العام بعقلانية وضمير وطني يبدد سحابات الشك والخوف من مقبل الأيام!!