خربشات
(1)
اقترب “كركاب” من قريته الصغيرة التي تقع في مرتفع رملي وإلى الجنوب منها واد عميق.. تزرع فيه الخضروات والفواكه.. تناثرت شجيرات اللالوب والسرح.. والكتر والغبيش.. والخروع.. والحميض والهبيل.. بعض الأشجار أثمرت في فصل الصيف مثل شجرة الحميض.. واخضرت أوراق شجر الكتر.. قبل هطول الأمطار.. وقد هبت نسائم ذلك الصباح منعشة.. مشى في زهو وخيلاء.. بجلبابه الأبيض ومركوبه الأصلة.. بعد أن فشل في الحصول على سيارة الأجرة الوحيدة التي تعمل بين محطة السكة حديد وقريته.. صغار الماعز تتقافز بين الشجيرات الشوكية.. بعض المزارعين يتجهون إلى بلداتهم لنظافة الحشائش وبقايا قصب الدخن.. والذرة ودخن الذرة على الأرض قبل هطول الأمطار أي (الرميل)!!
تثاءب “حاج عثمان”.. طويلاً.. وانتعل مركوبه المصنوع من جلد الماعز والمثقوب في مؤخرته وبات “حاج عثمان” يرتديه وأطراف كعبه عارية.. نادى على حاجة “فاطمة” التي وضعت ابنة أخيها أمامها.. (تفلي رأسها) أي تنظف الشعر الذي تراكم بين خصلاته التراب.. خوفاً وحذراً من انتشار القمل والقوب المستشري وسط الفتيات الصغار في عمرها.. حاجة “فاطمة” ترهل جسدها.. وحينما تجلس على (البنبر) يتمدد ثديها حتى يلامس فخذها.. تغني ببعض أهازيج زمانها الذي انقضى ولم تتبقَ منه إلا ذكريات عابرة.
شيلي لي يا بت التوم
قمير أبو سبعات الغالي ذي النجوم
سار تومي سكن الخرتوم
ارتفع صوت “عثمان”: يا “فاطمة” تعالي جيب لي سروالي أنا ماشي الزراعة.
فاطمة: .. زراعة شنو في الصيف دا يا راجل أنت جنيت؟.. “عثمان” التيراب وين؟
“فاطمة”: الخريف بعد شهر من الآن.
“عثمان” : الحكومة قررت دعم المزارعين بالتقاوى والسماد والبنك الزراعي جاب بابور جديد.
“فاطمة” : والله لو سمعت كلام الحكومة دا إلا تدخل السجن، وين “عبد الحميد” ووين “عمر طره”.. قاعدين في السجن بغسلوا ملابس العساكر ويخدموا في بيوت الضباط ،مسجونين أكلوا قروش البنك؟ أمشي أنت شيل قروش من البنك ،والله إلا باقي عمرك كله تقعد في السجن.
“عثمان”: أنا ماشي الزرع مع السلامة..انطلقت الزغاريد.. من بيت “أبكر كركاب” وتسللت عيون النساء من بين الحيشان التي تفصل بين البيوت لمعرفة أسباب زغاريد “كلتوم”.. سألت “خديجة”: الدقيل أنت بيت “كركاب” فيه شنو؟
“الدقيل” : أنت ما عارفة ؟ البت الكبيرة خطبوها ، لكن العريس عرف الحقيقة (وزاغ).
“خديجة” : “الدقيل” تعال أدخل البيت أشرب معاي شاي؟ عرف شنو كلمني؟
“الدقيل” : البت ما مطهرة؟.. أمها سمعت كلام المدرسات.. ورفضت طهارتها.
“خديجة”: بري.. بري نحن ما بنخلي عادات أمهاتنا وحبوباتنا.
“الدقيل”: .. يعني هسه
“خديجة”: خلي قلة الأدب ..الزغاريد شنو؟
“الدقيل”: أخذ “الدقيل” يغني بصوت خافت ويهز يديه:
الديوان الديمة مقشوش
بالزهور والورد معروش
يا قمر بوبا عليك تقيل..
الليلة الغداء في بيت “آدم كركاب”.. لحم وملاح شرموط.. وحاجات كثيرة من البحر.. “كلتوم” بقت صفراء.. إن شاء الله يا “خديجة” نشوفك ، وأنت فرحانة بي “إسحق”.. يجيب ليك حاجات ليبيا.
“خديجة”: “الدقيل” إن شاء الله من خشمك..
تعطر منزل “كركاب” بروائح امتزجت المصنوعة محلياً مع المستوردة… بخور أم التيمان.. صندلية.. رائحة أبو ليلة.. وحطب الطلح.. والهبيل. والنساء توافدن قبل الرجال.. و”كركاب” قد أرخى عمامته إلى منتصف الوجه.. بدأ الرجل بديناً بعض الشيء.. جلباب أبيض ومركوب أصلة.. ونظارة سوداء داكنة.. لكن كل ذلك لم يحسن من خشونة أياديه التي أنتجت في ذلك الصيف مئات الآلاف من الطوب الحراري الذي يفضل المقاولون إنتاج سنار، دون سائر المناطق الأخرى.
تحلق حوله شيوخ الحلة وشبابها وأخذت أكواب عصير روزانا بلونه الأحمر تجوب الجالسين على الأرض.. و”كركاب” ينظر للساعة التي في معصم يده ، كأنه ينتظر موعداً هاما.. رن جرس هاتفه.. أهلاً وسهلاً.. منو.. نعم وصلت البيت.. أنت كيف؟.. كان الجميع ينظر إليه بإعجاب وتأمل.
أخذ يتحدث بصوت مرتفع : دار صباح بلد جميل والناس طيبين جداً . ما تسمعوا كلام بعض الناس عن الجلابة والكلام الفارغ.
“فاطمة أحمد القصاري”” سمعنا يا “كركاب” قالوا قبضوك في المظاهرات وختوك في السجن؟
“كركاب” : ضروري جداً الإنسان يكون عندو موقف . أصلوا الحكومة قررت بعض القرارات . وارتفع سعر الرغيف وزملاءنا في نقابة المعلمين ونقابة المهندسين ونقابة الصيادلة ، عملوا ملم كبير في نقابة العمال. وقرروا الخروج في مسيرة من السوق حتى ميدان الحُرية.
“أحمد القصاري” : حرية دا شنو؟
“حسن تبش”: قاطعه يا “قصاري” خلي يتكلم . السؤال بعدين.
“كركاب”: ميدان حرية حاجة كبيرة جداً.. البوليس قبض على القيادات.. ووضعونا في السجن مع قادة الأحزاب ليوم واحد. وتدخلت الأمم المتحدة.. ومنظمة حقوق الإنسان والملكية الفكرية.. والمواصفات وتم إطلاق سراح القيادات .لكن المواطنين العاديين مثل “قصاري” و”حسن تبش” ما في زول يسألهم.. بعد إطلاق سراحنا ذهبنا إلى مواقعنا.. كتبنا تعهد في الشرطة، وانتهت المظاهرات.
“أحمد قصاري”: أنت يا “كركاب” بقيت سياسي ، لكن ما سمعنا صوتك في الراديو حتى الليلة.
“كركاب” : الناس البتكلموا في الإذاعة القيادات الصغيرة …
أخذت أقداح العصيدة.. تتزاحم أمام الجالسين في منزل “آدم كركاب”.. مختلف أنواع الأطعمة بليلة لوبيا.. وبليلة ذرة مخلوطة بالفول.. سمسم.. مظلوط.. ولكن إفطار “كلتوم” تأخر بعض الشيء.. إلا رائحة شواء لحم التيس قد تسللت للمكان.. والجميع في انتظار صينية “كلتوم”.
(3)
أخذت عشرات عربات إصحاح البيئة تجوب أحياء مدينة سنار التقاطع لنظافة ثياب المدينة من أكياس البلاستيك.. وانتشر العمال الذين خرجوا من تحت الأرض ينظفون الشوارع.. وأطل السيد المحافظ بثيابه البيضاء ولحيته الناعمة.. يحيط به ضباط إداريون.. وضباط شرطة.. وجيش وآخرون يرتدون ملابس مدنية ،ويهرول الجميع خلف الرجل الأربعيني.. الذي ترجل من السيارة الفارهة وأخذ يلوح بعصاه ويشير إلى القمامة وسط السوق.. بعض الصبية تجمعوا ينظرون إلى المحافظ حتى زجرهم الشرطي وتوجه آخر يضربهم بالسوط الذي بيده.
طلب المحافظ من التجار المساهمة في نظافة السوق استعداداً لزيارة مسؤول كبير من الولاية للمدينة بعد يومين تم منع بائعات الشاي من التكسب.. وأمر المحافظ الشرطة بالقبض على المجانين والمتسولين ووضعهم في السجن حتى نهاية الزيارة وتعقب عمال الطوب وحظر دخولهم المدينة يوم الزيارة.. ومن يخالف توجيهات المحافظ يقدم للمحكمة فوراً.
وكل جمعة والجميع بخير