المفاوض الحكومي "عبد الرحمن الخليفة": السودان كان سيشتعل حرباً إن لم يحدث الانفصال
(المجهر) تنقب في حصاد (13) عاماً من الاتفاقية التي قادت لتجزئة السودان
“عبد الله دينق نيال”: الحالة التي يعيشها الجنوب الآن بلغت درجة تحت الصفر
قيادي بمنبر السلام: شعور الجنوبيين كان معادياً لنا وأكثر حرصاً على الانفصال
تقرير ـ هبة محمود
على الرغم من أن بروتوكولاتها الستة جاءت تحمل بين طياتها بشريات سلام وضعت به أوزار أطول حرب أهلية شهدتها القارة السمراء لـ(21) عاماً من الزمان مخلفة وراءها الخراب والدمار والنزوح، إلا أنها بالمقابل أفقدت السودان ربع أراضيه بعد أن منحت حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، فكان الاستفتاء للانفصال بنسبة (98%) في العام 2011.
ظلت اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) الموقعة بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د. “جون قرنق” التي وقعت في 9 يناير من العام 2005، إحدى أهم الاتفاقيات التي صاغ مهندسوها ومفاوضوها بنودها دون أن تشفى ذاكرتهم منها، بينما ظل الجنوب حاضراً بكل تفاصيل الغياب كلما ساءت الأوضاع في البلدين، فالشمال يعاني اقتصادياً عقب فقده (80%) من عائدات النفط، والجنوب يحترق كل يوم وهو يشهد وضعاً مأزوماً وحروباً مستعرة.. وحسب مراقبين فإن ما يشهده البلدان نتاج طبيعي لهذه الاتفاقية التي ولدت ثنائية بضغط دولي انصب كل تركيزها على فصل الجنوب.
(المجهر) في الذكرى (13) من اتفاقية (نيفاشا) تقلب بعض الأوراق وتسترجع بنود الاتفاق.
{ مفاوض حكومي يترافع
بالرغم من رحلات سنوات التفاوض الثلاث بين السودان وكينيا، التي بدأت بتوقيع أول بروتوكول إطاري في مدينة (مشاكوس) الكينية في يوليو 2002 يوليو، إلا أن العلاقة بين (الحكومة) و(الحركة الشعبية) لم تكن على وفاق كامل، فمنذ اللحظة الأولى من تنفيذ اتفاقية السلام على أرض الواقع بدأت عمليات الشد والجذب والخلاف المتواصل، سيما وأن قضية تقسيم النفط ومنطقة أبيي شكلتا حجر عثرة في طريق إنفاذ الاتفاقية.
وقد شهدت الفترة الانتقالية انسحاب وزراء (الحركة الشعبية) من الحكومة احتجاجاً على أحداث وقعت في أبيي، طالت أصابع الاتهام الحكومة بإشعالها في العام 2008، إلى أن نجحت الوساطة الأفريقية بقيادة “ثامبو أمبيكي” في توقيع الطرفين مرة أخرى على خارطة طريق لحل مشكلة أبيي حسب بروتوكول المنطقة الوارد في اتفاقية السلام. ووقفاً لما شهدته الأوضاع والتوترات بين الجانبين، فإن العمل على أن تكون الوحدة جاذبة كخيار أفضل للجنوبيين لم يتم العمل عليه بالشكل المطلوب وإنزاله على أرض الواقع، الأمر الذي بدوره قاد إلى انفصال بنسبة تصويت عالية، وهذا ما سعى لنفيه القيادي بالمؤتمر الوطني وعضو المفاوضات “عبد الرحمن إبراهيم الخليفة” (المحامي) الذي أكد لـ(المجهر) عمل الحكومة على أن تكون الوحدة خياراً جاذباً، لافتاً إلى أن أي حديث غير ذلك لا يعد صحيحاً، وقال: (نيفاشا اتفاقية سلام أخلصنا فيها النوايا تجاه الطرف الثاني ولكن!!)، واستطرد: (من أين لك أن ترغم شخصاً على الوحدة وهو يسعى للانفصال.. لو كنت نقطت عسل في أفواه الجنوبيين أكيد كان ح ينفصلوا)، وزاد: (الحكومة بذلت في تنمية الجنوب ما لم يبذله أحد حتى أن الراحل د. “جون قرنق” وهو من على سلم الطائرة عندما زار الجنوب قال: الجنوب فيه تنمية كدا رغم إنكم بتحاربونا).
وقطع “الخليفة” في حديثه بأن مسألة الانفصال توافقت عليها جميع الأحزاب، وقال: (الأفضل كان أن يذهب كل شخص إلى حال سبيله، والسودان كان سيشتعل حرباً إن لم يحدث الانفصال، وطالما حق تقرير المصير موجود فإن كل الخيارات كانت مفتوحة).
{ حالة الجنوب وصلت الآن درجة تحت الصفر
لقد كانت آثار الانفصال هي الأكثر قسوة على الشعب الجنوبي الذي حصدت الحرب أرواح كثير من أبنائه، بعد أن وجدوا (أرض الأحلام) التي وعدوا به سراباً في مخيلة ساستهم، ولم يكن في انتظارهم سوى (الجوع، الخوف والموت)، وهي خيارات جعلت كثيراً منهم يعض أصابعه ندماً جراء تصويته على الانفصال، بينما يرى بعضهم أن وفاة “قرنق” أفقدتهم الكثير وعجلت بخيار الانفصال.. وفي هذا السياق فقد قطع القيادي الجنوبي البارز والمرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية من قبل المؤتمر الشعبي، وأحد وزراء حكومة الجنوب عقب الانفصال، حيث إنه تقلد منصب وزارة الكهرباء د. “عبد الله دينق نيال” الذي يمثل حزبه أحد الأحزاب المكونة للحكومة في الجنوب قبل أن يأتي الخرطوم ضيفاً، قطع بأن الحالة التي يعيشها الجنوب الآن وصلت درجة تحت الصفر، واكتفى بالقول: (أنا ما عايز أتحدث في حاجات عملتها الحكومة، لكن الجنوب يتمزق والحالة وصلت تحت الصفر، وحكومة الجنوب فشلت في إدارة البلاد في ظل الفساد الواضح والقبلية التي تعيشها البلاد)، وأردف: (هذه الحرب لعنة).
وفي الأثناء عدّ القيادي الجنوبي “استيفن لوال” الجنوب قد خسر قائداً محنكاً ورمزاً من رموز السلام في السودان الجنوبي والشمالي، مؤكداً لـ(المجهر) أن فقدانه خسارة كبيرة للشعب السوداني والأفريقي ولشعب جنوب السودان خاصة، سيما أن غيابه كانت له آثار كبيرة على المستويين (السياسي) و(الشعبي)، وقال: (الجنوب خسر فرص ترسيخ السلام عقب تعنت الأطراف الجنوبية وإصرارهم على مواصلتهم في الحرب العبثية التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الجنوب دون أسباب تذكر)، وزاد: (القيادات في الجنوب استخدمت أكثر طرق دموية في أفريقيا لحل القضايا)، وأردف: (الآن آمال الجنوب تترقب ما ستخرج به مبادرة إيقاد التي تنادي بأهمية إعادة السلام والاستقرار بالبلاد، الآن الوضع في الجنوب حرج للغاية والحال يزداد صعوبة أكثر من ذي قبل.. جميع الأوضاع الاقتصادية تدمرت تماماً والدولار طغى على العملة المحلية، فضلاً عن هشاشة الوضع الأمني واستمرار الحرب بين الأطراف الجنوبية إلى الآن).
{ منبر السلام: لو كانت الوحدة قائمة لكان الوضع أسوأ
ما بين تأرجح التوقعات بحدوث الانفصال أو الاستمرار في الوحدة بسلام، عقب مرور خمسة أعوام على توقيع الاتفاقية والاستفتاء على حق تقرير المصير في 2011م وفقاً لما نصت عليه البنود، كان البعض ينادي بضرورة الانفصال وعلى رأسهم منبر السلام العادل، الذي ظل على موقفه رغم ما يشهده البلدان من سوء في الأوضاع، وقد أكد القيادي بمنبر السلام العادل “ساتي سوركتي” أن مشكلة الجنوب بلغت مدى في الاستفحال وعمقت في العقل الجنوبي عداوة نحو الشمال تم توظيفها قبل عهد الاستقلال، وقال: (حتى عقب الاتفاقية، وبالرغم من سوء بعض تفاصيلها بالنسبة للشمال وسوء صياغة بعض الفقرات خاصة الأمنية، إلا أن الجنوبيين لم يرضوا عن الشمال، ولم يكن في عقلهم أن السودان وطن واحد)، وأضاف: (لم يكن هناك ما يسمى بالوحدة الجاذبة لأن المواطنة لا تشترى، فهي شعور وانتماء، وشعور الجنوب كما ذكرت كان معادياً لنا وكانوا أحرص منا على فصله)، وزاد: (والحديث عن أننا خسرنا البترول حديث ساذج، لأنو دا ما البترول الذي يباع به وطن أو يشترى، غير أنه لم يكن ثروة كبيرة في مقابل الثروات التي يمتلكها السودان.. نحن في الشمال لم نخسر شيئاً، والمشاكل التي يعاني منها الشمال لا علاقة لها بالانفصال ولو كانت الوحدة قائمة لكان الوضع أسوأ)، ومضى قائلاً: (لم يؤثر الانفصال على السودان، بل على العكس فإن 90% من التخلف الذي يعانيه الشمال والضنك مرده إلى دور الحركة الشعبية وتوظيفها ضد الشمال)، وأردف: (نحن نادينا للانفصال لأنه كان أمراً طبيعياً، سيما أنه كان قائماً في العقل والوجدان، والجنوبيون كانوا يتولون أعداءنا، وشعورهم نحونا معادٍ ولم يكونوا أصدقاء لنا).
وفي المقابل، يرى المحلل السياسي المعروف الأستاذ “الطيب زين العابدين” أن السودان بالانفصال خسر كثيراً، مؤكداً لـ(المجهر) أن التنوع الذي تمتاز به البلاد كان من شأنه أن يجعلنا في القمة من ناحية الإدارة، وقال: (بلد مثل السودان وبهذا التنوع يشير إلى أننا قادرون على أن ندير التنوع بالطريقة المثلى)، واضاف: (الانفصال سمعة لنا لأننا البلد الوحيد في أفريقيا انفصلنا عقب الاستقلال)، وزاد: (إريتريا انفصالها كان قديماً، وإذا الحكومة استمرت بهذا الشكل سنعاني من انقسامات أخرى)، وأردف: (الحكومة كان لديها وهم الوحدة مع الجنوب، وكانت تعتقد أنها قادرة على جعل الوحدة خياراً جاذباً، لكنها لم تعمل عليها، وهذه الاتفاقية كانت اتفاقية انفصال أكثر منها سلام).
{ خنق اقتصادي
خسائر كبرى طالت الاقتصاد السوداني عقب انفصال الجنوب، كبدت الدولة وفقاً لمراقبين اقتصاديين مليارات الدولارات من عائدات النفط، وقد أكد الخبير الاقتصادي المعروف “عبد الله الرمادي” أن فصل الجنوب ليس سوى مؤامرة عالمية قادتها أمريكا سعياً منها إلى تغيير النظام، عندما بدأت بخلق مشاكل في مناطق متعددة وعندما فشلت لجأت إلى الخنق الاقتصادي وفصل الجنوب حتى يفقد السودان أكثر من (85%) من موارده في العملات الأجنبية على حد قوله، لافتاً إلى الهزة الاقتصادية الكبيرة التي أحدثها الانفصال، وقال: (كان ينبغي على الحكومة التعامل مع الأمر بإجراءات وقائية، وأن يكون اقتصاد شدة، ولكن الذي حدث عكس ذلك فقد شهد الوضع ترهلاً)، وزاد: (يعدّ السودان من حيث الإمكانات التي يزخر بها الطبيعية ومكنونات الأرض، إحدى ثلاث دول يعول عليها في الغذاء العالمي، ولكن نحن لم نستفد من هذه الميزة، سيما أننا نتمتع بكميات كبيرة من المعادن وعلى رأسها الذهب).
إلى ذلك، استعرض مدير الإدارة الاقتصادية بالجهاز المركزي للإحصاء الأستاذ “العالم عبد الغني” نسب التضخم منذ العام 2011، مؤكداً لـ(المجهر) التأثير الكبير الذي أحدثه فقدان البترول، مشيراً إلى ارتفاع نسبة التضخم في ذلك العام، حيث ارتفعت في العام 2011 من (18%) إلى (35,6%) في العام 2012، ليستقر في العام الذي يليه 2013 مع انخفاض بسيط بنسبة (36,5%)، ثم والى في العام 2014 ارتفاعه إلى (36,9%)، وقال: (لولا البرنامج الثلاثي لقفز التضخم إلى أكثر من ذلك)، وأضاف: (بفضل تلك الإجراءات انخفضت نسبة التضخم في العام 2015 إلى (16,9%) وسار على هذا المنوال إلى حين قيام الإجراءات المالية التي أجرتها وزارة المالية في 2016، التي جعلت معدلات التضخم ترتفع مجدداً، والتي توقع لها بلوغ (33%) بنهاية العام 2017.
{ تقليب أوراق
وفقاً لبعض المصادر الإلكترونية فإن أطرافاً خارجية عديدة بذلت محاولات كثيرة خلال سنوات الحرب الطويلة، بما في ذلك دول الجوار، والمانحون المعنيون والدول الأخرى، وطرفا النزاع، لوضع نهاية للنزاع، غير أن التعقيدات الضخمة للحرب وانعدام الإرادة السياسية حالت دون الوصول إلى حل مبكر.
وفي عام 1993 أصبح رؤساء دول الهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) طرفاً في المبادرة الأخيرة التي سعت إلى جمع الطرفين، وكانت هذه بداية لعملية طويلة تكللت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في 2005م.
تابعت الأمم المتحدة تحت رعاية (إيقاد)، مبادرة السلام الإقليمية ودعمتها عن قرب. وقد مثّل المستشار الخاص للأمين العام، السيد “محمد سحنون”، ومسؤولون كبار آخرون الأممَ المتحدة في اجتماعات قمة دول (إيقاد) وأداروا مشاورات مع الحكومات والمنظمات الإقليمية دعماً لعملية السلام، كذلك شاركوا في اجتماعات منبر شركاء (إيقاد) الذي يتكون من الدول المانحة والمنظمات التي تدعم علمية السلام تحت رعاية (إيقاد)، وتساعد المنظمة الإقليمية في تحسين قدراتها في مناحٍ عديدة، وتم توقيع الاتفاقيات الست بين الحكومة والحركة الشعبية بقيادة “قرنق”، أولها (بروتوكول مشاكوس) الذي وُقع في مشاكوس بكينيا، في 20 يوليو 2002م، حيث وافق الطرفان على إطار عام، يضع مبادئ للحكم، والعملية الانتقالية، وهياكل الحكم، بالإضافة إلى الحق في تقرير المصير لشعب جنوب السودان، كما يتناول موضوع الدين والدولة، ثم تلاه (بروتوكول الترتيبات الأمنية) بمدينة نيفاشا الكينية، في 25 سبتمبر 2003م، ثم (بروتوكول تقاسم الثروة) أيضاً بنيفاشا في 7 يناير 2004م، وفي ذات العام والمدينة تم الاتفاق والتوقيع على (بروتوكول تقاسم السلطة) في 26 مايو 2004م، ليليه بعد ذلك (بروتوكول حسم النزاع في جنوب كردفان/ جبال النوبة وولاية النيل الأزرق) و(بروتوكول حسم النزاع في أبيي) الموقعان في 26 مايو 2004م.
في خضم تلك الاتفاقيات، توقفت المفاوضات بين الطرفين بشأن بروتوكول وقف إطلاق النار الدائم في جولة المحادثات التي عُقدت بنيفاشا في يوليو 2004م، ولم يتمكن الطرفان من الوصول إلى اتفاق بشأن عدد من المواضيع، وأهمها: (إعادة نشر القوات في شرق السودان وتمويل الحركة الشعبية لتحرير السودان، وقد وافق الطرفان تحت ضغط من المجتمع الدولي، ومجلس الأمن، والأمين العام للأمم المتحدة وممثله الخاص في السودان، والاتحاد الأفريقي، وإيقاد، على مواصلة محادثات السلام بنيروبي في 7 أكتوبر 2004م. وتواصلت المحادثات بمناقشات على مستوى عالٍ بين النائب الأول للرئيس وقتها “علي عثمان محمد طه” ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان “جون قرنق”.