تقارير

(المجهر) تسجل زيارة خاصة لمنزل مُقدم اقتراح إعلان الاستقلال بنيالا "عبد الرحمن دبكة"

أسرته تشكو إهمال دوره الوطني وتؤكد أن إرثه مسؤولية الكل
ابن اخيه: زيارة “الأزهري” إلى دائرة “دبكة عد الغنم” مهدت لإعلان اقتراح الاستقلال
نيالا- عبد المنعم مادبو
التاسع عشر من ديسمبر يعدّ يوماً تاريخياً من أيام النضال الوطني، ارتبط باسم أحد الأبطال صُنّاع استقلال السودان من المستعمر الإنجليزي، وارتبط هذا التاريخ بدوره باسم أحد أبناء السودان من مناطق البقارة غربي البلاد، وهو المناضل “عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة”، نائب برلمان 1953م من الدائرة (43) البقارة عن حزب الأمة – بدارفور، الذي اقترح إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان وحظي الاقتراح- وقتها- بتأييد واسع من النواب فكان بمثابة نقطة التحول نحو جلاء المستعمر.
بمناسبة هذه الذكرى الـ(62) للاستقلال توجهت (المجهر) إلى منزل “عبد الرحمن دبكة” بحي “خرطوم بالليل” بمدينة نيالا الذي رحل عن الدنيا في العام 1988م مخلفاً وراءه إرثاً تاريخياً ناصعاً، فكان البيت يفوح منه عبق التاريخ، وكل جزء منه يحكي عن نضالات رجل أطلق في يوم 19 ديسمبر من العام 1955م شرارة الحرية وهو يتدثر بشجاعة تشربها من بيئته وبيت الإدارة الأهلية وزعامة قبيلة “بني هلبة” التي كان يتقلدها والده “إبراهيم دبكة الوالي”.

{ الاستقبال
 في باب المنزل استقبلتنا ابنة الراحل “التومة عبد الرحمن دبكة” وابن اخيه “حافظ إبراهيم دبكة” وعدد من أحفاده، فكانت جلسة في حضرة الراحل “دبكة”.. بدايةً كان الحديث لابن شقيق الراحل “حافظ دبكة” الذي أعرب عن تقديره لمبادرة صحيفة (المجهر) للجلوس مع أسرة الراحل ونقل جوانب من حياته، وفي تعليقه على الذكرى السنوية للاستقلال قال إنها تعني الكثير لأسرة “دبكة” وهي مفخرة لكل الشعب السوداني، وأضاف: (الاستقلال يعني لنا وقفة مع الذات والرجوع إلى الماضي والوقوف عند الحاضر واستشراف المستقبل، بالإضافة إلى أنه يعني لنا سلسلة طويلة من البطولات والمجاهدات التي قادها أبطال السودان إلى أن توجت باقتراح استقلال السودان داخل برلمان 1955م الذي ‘طرحه  النائب “عبد الرحمن دبكة” بموجب انتخابات كانت نتاجاً لاتفاقية السودان في العام 1953م، وأشار إلى أن إعلان مقترح الاستقلال الذي تقدم به “دبكة” فاز بالإجماع وأصبح الحد الفاصل بين فترة الاستعمار واستشراف المستقبل بروح جديدة.

{ الاستقلال بالحوار

“حافظ دبكة” عدّ استقلال السودان متفرداً وسماه (استقلالاً حوارياً)، وقال: (هذه الذكرى لا تعني الوقوف عند التواريخ فقط، وإنما هي ذكرى نرجع بها للماضي ونستشرف المستقبل، والسودان يحاول إرساء ثقافة الحوار في السنوات الأخيرة)، وأضاف: (أنا أسمي استقلال السودان “استقلالاً حوارياً” لأنه استقلال لم يأت عبر فوهة البندقية ولم يأت بنزيف دم)، وتابع: (الاستقلال جاء نتاجاً لمسيرة نضالات ومجاهدات طويلة توجت بإعلان السودان حراً مستقلاً)، وأشار إلى أنه في ظل انقسام السودانيين ما بين الوحدة تحت التاج المصري بموجب شعار حزب الاتحادي الوطني، والسودان للسودانيين، شعار حزب الأمة عاد نواب البرلمان إلى دوائرهم، ومن بينهم “دبكة”، الذي قاد عملاً وطنياً جعلني أسمي استقلال السودان حوارياً، حيث طاف دائرته “عد الغنم” التي تضم الآن زهاء (10) محليات من “الردوم” إلى “أم دافوق”، وجمع كل هؤلاء وكانوا على صهوات الخيول والجمال، راكبين وراجلين، جمعهم واستقبل بهم في العام 1953 الزعيم “إسماعيل الأزهري”، وحينها كان “الأزهري” من دعاة الوحدة تحت التاج المصري، وتابع: (عندما جاء الأزهري إلى عد الغنم وهتفت الجموع: عاش السودان حراً مستقلاً وعاش السودان للسودانيين، الأمر الذي اضطر الزعيم الأزهري إلى أن يغير رأيه إلى رأي عامة الجماهير، وكان ذلك حواراً حقيقياً عبر الجماهير).
وذكر “حافظ” أن الراحل “دبكة” اكتسب روحه النضالية من البيئة التي نشأ فيها، فهو ابن المجاهدين الذين ناضلوا مع الإمام “محمد أحمد المهدي” منذ بداية القرن التاسع عشر قبل استقلال السودان الأول، وقال إن دور “عبد الرحمن دبكة” جاء نتاجاً لتراكم جهادي ونضالي طويل ولم يقتصر في اقتراح إعلان الاستقلال، فقد كان رجلاً مناضلاً منذ أن كان في المدرسة الأميرية بالفاشر، وتم فصله من المدرسة بسبب مواقفه مع المفتش الإنجليزي. وأشار إلى أنه بتعبئة “دبكة” لجماهير دائرته للهتاف يوم استقبال “الأزهري” بشعار السودان للسودانيين كان قد قاد حواراً مجتمعياً مع الزعيم “الأزهري” وأقنعه بأن يغير اتجاه الاتحاد الوطني من دعوته للوحدة مع مصر إلى خيار السودان للسودانيين وهو خيار حزب الأمة الذي ينتمي إليه “دبكة”، وأضاف: (بذلك كان عبد الرحمن دبكة الأكثر فاعلية بين قيادات حزبه لإنزال شعار “السودان للسودانيين والسودان حراً مستقلاً”، وأكثر نائب برلماني من حزب الأمة قام بهذا الدور وأثبته عملياً بدعوة الزعيم الأزهري لزيارة دائرته عد الغنم)، مشيراً إلى أن تلك الزيارة حظيت بتغطية إعلامية واسعة من أجهزة الإعلام العالمية مثل (bbc) وكثير من الصحف والمجلات العربية جاءت مع رئيس الحكومة “إسماعيل الأزهري” وعكست كيف أن أهل غرب السودان استقبلوا رئيس الوزراء وهتفوا للاستقلال التام.
وقال “حافظ” إنه حسب ما روى الناظر “دبكة” فإن زيارة رئيس الوزراء الزعيم الأزهري إلى دائرة “دبكة عد الغنم” أشبه بالمقدمة التي مهدت لإعلان اقتراح الاستقلال بالإضافة للشجاعة التي كان يتحلى بها “دبكة” والتي قادته إلى أن يتم فصله من المدرسة بسبب تعاركه مع أحد الأساتذة الإنجليز بسبب رفضه للاستعمار، وكان يعبر لهم عن رفضه باستمرار، وقال إن “دبكة” منذ صغره نشأ متميزاً في أدائه وكرمه وشجاعته وما إعلانه اقتراح استقلال السودان من داخل البرلمان إلا للشجاعة التي يتحلى بها، وما تعبئته لمجتمع دائرته إلا نوعاً أيضاً من الشجاعة التي اتسم بها.
{ ضعف الاحتفاء بالدور الوطني لـ”دبكة”
على الرغم من الخطوة المفصلية التي خطاها “دبكة” في تاريخ السودان بإعلانه مقترح استقلال السودان من داخل البرلمان إلا أن أسرته ترى أن مستوى الاحتفاء بدوره لم يكن بمستوى ما قام به، ويقول “حافظ” إنه عندما يبدي ذلك لا يعني حق أسرته الصغيرة وإنما مجتمع الدائرة (43) التي كان يمثلها ودارفور والسودان عامة، وتابع: (المحافظة على إرث دبكة مسؤولية كل السودانيين لأنه لم يقم بدور يخص أسرته الصغيرة، إنما قام بعمل وطني يخص ويهم كل الشعب السوداني)، وقال إنهم كأسرة صغيرة للراحل “دبكة” تنتابها الحسرات لما وصفه بالإهمال للدور الوطني له وتابع: (حقيقة نتأسف بأن هذا الدور لم يقدر كما ينبغي ونتمنى أن ينتبه الناس لهذه النقطة وأن يحافظوا على إرث دبكة، وهنا لا أعني الإرث المادي فقط وإنما الإرث المفاهيمي أيضاً.. رجل خرج من دائرة برلمانية وذهب وناضل إلى أن أعلن الاستقلال، وبالتالي هذا الإرث الحواري الذي ورثه من حكمة ونباهة وشيوخ زعماء القبائل هذا ينبغي أن يحافظ عليه الناس ويسيروا عليه).
وأشار “حافظ” إلى عدم الاحتفاء بدور “دبكة” للأسف حدث من غالب الحكومات التي تعاقبت على السودان، لم تحتف به الاحتفاء الذي يليق بمكانته، ولفت إلى أن من حقه الطبيعي وحق الأجيال أن تتعرف على الدور الوطني الذي قام به الراحل “دبكة”، وأضاف: (أنا لا أتحدث عن مكتسبات لأسرته الصغيرة وإنما أتكلم عن مكتسب قومي، وبالتالي المسؤول من المكتسب القومي الحكومات المتعاقبة على السودان)، واتهم الحكومات بالتقصير في التعاطي مع الإرث التاريخي لـ”عبد الرحمن دبكة”).
{ ما بين برلمان 1955 والبرلمانات اللاحقة

وفي سؤالنا له حول المقارنة بين الدور الذي لعبه برلمان 1953م وبرلمانات الحاضر يقول “حافظ دبكة” إن البرلمان الذي صنع الاستقلال كانت فيه الظروف السياسية والروح العامة لأهل البلد مختلفة عن الوضع الآن، حيث كانت القضية جامعة، وقضية كل السودانيين، وكانت قضية مصير حقيقة، وكانت مشاعر الناس تجاه الاستقلال مشاعر موحدة بخلاف الواقع السياسي اليوم، وأكد أن المقارنة بين برلمان الاستقلال وبرلمانات اليوم صعبة، لكن الاختلاف في البرلمانات الحالية سببه- حسب “حافظ دبكة”- القضايا الوطنية المطروحة والواقع الاجتماعي، بعكس قضية الاستقلال التي التف حولها كل السودانيين. وأعرب عن أمله أن يعم السودان الاستقرار والرخاء، وأوصى أبناء السودان بالحوار الذي قال إنه أنتج الاستقلال، وهو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يصل إلى الاستقرار والتنمية، وقال إن حوار البنادق لن يجدي سبيلاً ولن نجني منه عنباً على الإطلاق، وإنما نسيل به دماً، وتابع: (لذلك باسم أسرة الراحل دبكة نتمنى أن يكون الحوار القيمة العليا بيننا كأبناء السودان، وأن يكون هو الطريق الوحيد للوصول إلى الاتفاقات والتفاهمات بين السودانيين).
{ ابنة الراحل
ابنة الراحل “التومة عبد الرحمن دبكة” قالت إن والدها لديه زوجتان و(15) من الأبناء، وكان منزله عامراً دائماً، يأتيه الناس من مختلف أنحاء السودان، منهم القادة الأهليون والسياسيون، وكان همه دائماً السلام ووحدة السودانيين كافة، وفي دارفور، وقالت: (أذكر لو حدثت أي مشكلة بين أي مجموعات، نجده أول الساعين لحلها، لذلك يسافر لكل أنحاء دارفور من أجل معالجة مشكلة معينة، وكانت كلمته مسموعة بين كل المجتمع بدارفور).
“التومة” أبدت أسفها لأن المواطن العادي- على حد قولها- لا يعرف أي شيء عن “عبد الرحمن دبكة”، والسبب- برأيها- قد يكون ضعف التعاطي الإعلامي مع دوره، بجانب أن المؤسسات التربوية مثل المدارس لم يكن لها اهتمام بهذا الأمر، وقالت إن المناهج السودانية في المراحل التعليمية لم تتناول أي شيء عن حياة الراحل “دبكة”، وزادت: (الآن لو سألت أي تلميذ عن عبد الرحمن دبكة تجده خالي الذهن تماماً عن هذه الشخصية، والحاجة المؤسفة مدينة نيالا هي مدينة دبكة إلى أن توفي، لا يوجد فيها ولا حتى شارع ولا قاعة من القاعات ولا مدرسة باسمه)، وتساءلت: (هناك طريق قاري يربط بين مدينة نيالا ومسقط رأس دبكة في عد الفرسان لماذا لا يسمى هذا الطريق باسمه؟).
وأبانت “التومة” أن والدها في فترة الاستقلال كان يعيش ما بين منزليه في مسقط رأسه (عد الغنم) وأم درمان، وقالت إنهم كانوا يتنقلون معه في السبعينيات حتى نهاية فترة حكم الرئيس “جعفر نميري” ما بين أم درمان والفاشر، ومن ثم انتقلوا إلى مدينة نيالا في نهاية 1986م للعيش في هذا المنزل، لكن قبل أن يكمل والدها العامين فيه وافته المنية وانتقل إلى جوار ربه.
{ أوسمة
أوضحت “التومة” أن والدها نال عدداً من الأوسمة في حياته، أبرزها “وسام النيلين” من الطبقة الأولى و”وسام الجمهورية” و”وسام الإنجاز السياسي”، ولفتت إلى أن جميع هذه الأوسمة كانت في عهد حكومة “نميري” وهي الحكومة الوحيدة التي كرمت الراحل “دبكة”- على حد قولها- كما نال دروع الحركة التعاونية لجهة أنه كان من رواد الحركة التعاونية في السودان، ومن مؤسسيها في دارفور، مشيرة إلى أن الملكة “إليزابيث” أهدت والدها جلابية بعد الاستقلال مباشرة وكان معها “طقم فضة” موجود الآن في بيت الراحل بأم درمان.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية