استلهام تجربة
هل نحن في السودان في حاجة لدعم تركيا المادي بالاستثمار في الأراضي الخصبة والإمكانيات الزراعية المقدَّرة؟ أم نحن في حاجة أكثر إلحاحاً للاستفادة من التجربة التركية في قيمها وثقافتها.. ومشروعات النهضة.. وركائز وأعمدة صعود التيار الإسلامي التركي من رصيف المعارضة إلى الحكم في دولة تتقاذفها أمواج التاريخ التليد.. والحاضر العتيق؟
وقد احتفى السودانيين بالرئيس “رجب طيب أردوغان” مثلما احتفوا من قبل بـ”هاشم رفسنجاني” الزعيم الإيراني المحافظ.. ومثلما خرجوا للشيخ “حمد بن خليفة” أمير قطر السابق وصانع نهضتها الحديثة.. فهل استفاد السودانيين حقاً من تلك التجارب الإنسانية في النهوض بشعوبها من الدرك السحيق إلى القمم السامقة؟
لو لم يقدِّم “رجب طيب أردوغان” إلا تجربة تركيا في الصعود من السفح إلى القمة.. وكيف خططت الحركة الإسلامية هناك لإنقاذ المجتمع التركي لا إنقاذ عضويتها من بطش العلمانيين الأتاتوركيين.. وكيف حصدت أصوات الجماهير التركية التي اختبرت الإسلاميين الأتراك؟.. فوجدت عندهم الصدق.. والنزاهة والطهارة والنأي عن الفساد.. وفي أربع سنوات فقط، من عمر الحكم الإسلامي في تركيا نهض الاقتصاد وتراجع معدَّل التضخم من (32%) إلى (1%) فقط.. وازدهرت التجارة الداخلية والخارجية وتعافى الاقتصاد التركي من أمراض أقعدت به زمناً طويلاً.. وأقبل المهاجرون الأتراك من ألمانيا.. والنمسا والنرويج وفرنسا وسويسرا، وعاد خلال ستة أعوام نحو (2) مليون تركي.. وتنفَّس المواطنين نسائم الحرية وتراجعت سجلات الدولة من منتهكة لحقوق الإنسان إلى دولة محافظة.. وبعد أن كانت تركيا منبوذة وتستجدي الاتحاد الأوروبي بالتودد لمنحها عضوية تحت الاختبار.. أقبلت الدول الأوروبية نحو أنقره بحثاً عن التعاون.. كيف نهضت تركيا بالقيادة الجماعية ومن خلال فريقين أحدهما للتنظير والتخطيط وفريق للإدارة والتنفيذ وجعل من فريق التخطيط والتنظير اليد العليا في شؤون القيادة؟.. لأن القائد في حاجة للموهبة التصورية أكثر من العملية.
وقد نجحت تركيا في استنبات قيادات متجدِّدة ومعاصرة بالقدر الذي حقق نجاحات شاهدة على صعود العملاق الإسلامي المستنير، ولم تبق تركيا على قياداتها لسنوات طويلة في السلطة لدرء مخاطر التجميد والتحنيط، وأن تصبح القيادات تقتات من التاريخ والإنجازات.. ولكنها اختارت طوعاً التجديد.. وديمقراطية العصر باعتبار أن التغيير ضرورة.
والتجربة السودانية التي واجهت عواصف وحروبات لم تواجهها تركيا.. في حاجة الآن أكثر من الوقت الذي مضى إلى الاستفادة من دروس التاريخ.. وقيم الآخرين الذين نهضوا بشعوبهم اعتماداً على الذات لا الهبات والقروض والمنح التي تقتل في النفس الهمة والعطاء.
أمام السودانيين ثلاث تجارب لشعوب ودول نهضت من رماد الهزيمة إلى مجد الانتصار، أولها التجربة الماليزية التي أذهلت العالم باعتمادها على قيم وركائز المعرفة العلمية حتى أصبحت تلك الدولة الفقيرة رمزاً اليوم للنماء والرخاء الاقتصادي ثم التجربة التركية الشاخصة أمام بصر العالم بكل عنفوانها.. حتى غدت تركيا دولة يرنو إليها بصر الدنيا.. وأخيراً تجربة الجارة أثيوبيا التي تنهض كعملاق في القارة، وكل هذه التجارب لم يكتب لها النجاح إلا من خلال طهارة الحكم.. ومحاربة الفساد وتقليل الإنفاق الحكومي.. والارتقاء بالتعليم والعلوم والاهتمام بالعلماء.. وكثيرة هي العِبَر والدروس والتجارب من يصغي ويقرأ ويتعلَّم ويحلم بالثريا بديلاً للثرى.