أخبار

خربشات الجمعة

(1)
اتكأ “آدم كركاب” على جذع شجرة الحراز ومد رجليه بعيداً.. وأخذ يتأمل في انحسار مياه النيل في شهر مارس والصعوبات التي تواجه العمال جراء ذلك، مما يتطلب الاستعانة بطلمبة ساحبة لتوفير مياه صناعة الطوب.. وضع “سفة التمباك” بين شفتيه قد بدأت عليهما الإحمرار من أثر التمباك.. وقد تساقطت ثلاث من أسنانه دون أن يبالي بذلك.. تذكر ليلة البارحة وهو بين المحبوسين من الطلاب والعمال في حوش الشرطة بتهمة معارضة السُلطة والتظاهر وتخريب ممتلكات الشعب وتعريض السلامة العامة للخطر.. ولماذا قال له الشرطي أنت من الحركات المسلحة الدارفورية.. دفعت بكم الحركات المسلحة لإحداث تخريب في مدينة سنار و”كركاب” كان من المقاتلين في الدفاع الشعبي.. ولا صلة تجمعه لا بدارفور كجغرافية ولا الحركات المسلحة.. لكن الشرطي نظر للوشم الذي على وجهه.. ولون بشرته السوداء، وقرر أن يمنحه صفة دارفوري.. ويسقط عنه انتماؤه الجغرافي لكردفان التي تتمازج مكوناتها مع دارفور.. وبسط من قبل السُلطان “محمد الفضل” نفوذه على كردفان.. وجعل من المسبعات الذين حكموها.. سلاطين على الأبيض وبارا والنهود والدلنج قبل أن تندثر مملكة المسبعات التي يرجح أنها حكمت من خلال تحالفات عريضة وليست عصبة قبيلة واحدة.. شأنهم في ذلك الغديات.. و”كركاب” يتذكر قصص جدته “عائشة” أم التيمان عن “تمبل باي” الذي كان يحكم تشاد بالحديد والنار.. ويفرض على الرجال أن يأتي أحدهم بابنته ليتزوجها “تمبل باي” لليلة واحدة.. ويحتفل الرجال ويفتخرون ببناتهم اللاتي اتخذهن “تمبل باي” زوجات له في ليالي القمر.. وكيف أدى سقوط نظام “تمبل باي” لهجرة عشيرته شرقاً نحو السودان وجنوباً باتجاه الكاميرون وشمالاً إلى ليبيا.
(2)
أخذ “كركاب” يغني وهو المغرم بالراديو.. وبرنامج ما يطلبه المستمعون.. وفي أيام (الأحد) و(الخميس) يستمع لإذاعة إثيوبيا التي تبث أغنيات سودانية.
ولو حاولت تذكر تعيد الماضي من أول
تلقى الزمن غير ملامحنا ونحن بقينا ما نحن
أنا الصابر على المحنة..
ومحنة “كركاب” ما بين ليلة الرعب التي عاشها.. والخوف من العودة لسنار التقاطع والقبض عليه مرة أخرى وهو لا يعرف متى يتظاهر الطلاب المشاغبون ولماذا يتظاهرون.. وكيف الوصول لكمبو واحد (الخميس) القادم، لاختلاس ساعة من البهجة والطرب والترويح عن النفس بعد أسبوع شاق من العمل في كماين الطوب.. شعر بأن بطنه خاوية من الطعام.. ووضعت حلة العصيدة على (اللدايا) وصب الماء.. وأشعل الحطب. لإعداد وجبة عصيدة، لكنه حينما بحث عن دقيق الدخن.. وجد جوال البلاستيك خاوياً وممزقاً.. سأل “أحمد دهب”.. الدقيق وين؟ كانت الإجابة أن كلاب القرية قد هجمت عليه بسبب بقايا اللحم والعظام.. وتلاعب صغار الكلاب (الجريوات) ومفردها جرو حتى بالملابس ومزقت الجريوات جوال الدقيق.. ولم تسلم إلا قارورة الزيت.
رفض “آدم كركاب” الذهاب لسنار التقاطع لإحضار الدقيق واللوبيا.. والكجيك خوفاً من المظاهرات.. والقبض عليه مرة أخرى.
اهتدى الجميع إلى فكرة عقد اتفاق مع الشيخ بائع الخضار في ديم المشايخة للذهاب لسنار التقاطع وشراء كل مستلزمات (التاية) مقابل عشرة جنيهات.. لأن الشيخ من أهل المنطقة وغير متهم عند الشرطة بالانتماء لحركات دارفور، إذا اندلعت مظاهرة أخرى.. استغل الشيخ حاجة العمال للدقيق واللوبيا.. وخوفهم من العودة لسنار.. وأخذ يقصص عليهم من خياله ما حدث قبل قليل في سنار التقاطع.
أشعل الشيخ سيجارته.. وقال إن الشرطة ألقت القبض على الناس بالعشرات.. وتم إطلاق غازات جعل الرجال يفقدون القدرة على الحركة وتؤثر على رجولتهم في المستقبل.. وإن مئات الجنود جاءت بهم الحكومة من الخرطوم لتفريق المظاهرات ومن يتم القبض عليه يتم ترحيله بالطائرة إلى الخرطوم.. قال “كركاب” وهو يرتعد من الخوف.. صحيح أنا شاهدت ثلاث طائرات تحلق في السماء دون صوت.. قال “الشيخ” وهي تطير بدون طيار كذلك.
(3)
فكرت “كلتوم” بعد سفر “كركاب” إلى دار صباح في العمل بالسوق لبيع الشاي والأطعمة.. وقد بدأ فصل الصيف مبكراً.. و”كلتوم” تخرج في الصباح من بيتها إلى السوق لتنضم إلى رفيقات لها.. “رابحة”.. و”فطومة”.. و”سعاد”.. والأخيرة تكني بـ”سعاد” المجنونة.. لتصرفاتها الطائشة.. وتهورها.. ونظرتها للرجال بسبب عقدة لازمتها في حياتها.. بعدم الزواج حتى تجاوزت الخمسين عاماً.. لم يطرق بابها يوماً رجلاً باستثناء “الدقيل القصاري” الذي وفد إلى المنطقة في عام الجفاف ولا يعرف له أهل ولا قبيلة ويقول البعض إن “الدقيل القصاري” من فصيلة الجن التي تتقمص شكل الإنسان.. ويقولون عنه أيضاً أنه مات وبعث من جديد.. وفارق أهله رفضته “سعاد” المجنونة.
 “كلتوم” حينما عادت في ذلك اليوم من السوق.. حدثتها ابنتها الصغيرة عن رجل يمتطي حماراً أبيضاً جاء قبل قليل وسأل عنها.. وقال إنه سيعود بعد قليل.. من يكون الرجل الذي يسأل عنها؟ هل هو “صديق” الذي ظل يلاحقها حتى بعد زواجها من “كركاب” وقد رفض والدها أن تتزوج “كلتوم” من “صديق” بزعم أن والدته من عرب البقارة؟ أم رجلاً آخر ضل الطريق.
سمعت طرقاً على الباب والرجل ينادي حماره (حاو.. حاو) وهي لغة.. خاصة بين الإنسان والحيوان.. و(حاو) تعني توقف!! وعر تعني (تحرك).. ووش تعني اقترب.
 السلام عليكم يا ناس البيت!!
أهلاً وسهلاً تفضل!!
لا.. أنا من حلة صابون وأخرج حزمة أوراق مالية ووضعها في يد “كلتوم”، هذه وصية من “آدم كركاب” كيف حالو مع دار صباح؟.
مرتاح شغال في الطوب.. ويوم (الخميس) بمشي الكمبو.. بشرب مريسة الحبشيات.. والجنقايات.. قبضوه ناس الشرطة في مظاهرة وتم إطلاق سراحه.
نظرت “كلتوم” للضيف وطلبت منه النزول من حماره.. وأن يشرب كباية شاي.
نظر إليها وأمسك بيدها حتى ارتفعت دقات قلبها.. وكانت ابنتها الصغيرة تراقب المشهد.. قال الرجل معليش أنت ما براك بجيك مرة ثانية بشرط تكوني لوحدك.
تعثرت الكلمات في فمها.. وأومأت برأسها وسألته هل ستعود لدار صباح مرة أخرى.
لا.. لا.. الخريف على الأبواب ولدينا مزارع تحتاج لنظافة مبكرة.. والبحر تفشى فيه مرض الملاريا.. والإسهالات..
أخذت “كلتوم” في عد النقود التي بعث بها “كركاب”.. ألف.. ألفين.. ثلاثة آلاف.. دلفت إلى داخل البيت وضغطت على ذر تشغيل المسجل الناشونال فأخذ “إبراهيم عوض” يغني:
متين يا ربي تاني تلمنا
قريب يا ربي تاني تلمنا
شهقت وهي تقول ما تين يا ربي تاني تلمني بـ”آدم كركاب” وتخرجه من كنابي الفداديات في دار صباح وتحميه من شر الحبشيات.
وحتى الجمعة القادمة
مع التحايا

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية