رأي

مسامرات

هذا هو “أبو عركي”
محمد إبراهيم الحاج

{ دائماً ما كنت أشير في كثير من الكتابات إلى النزعة العدوانية الشرسة التي تحول إليها المجتمع السوداني مؤخراً جراء عدة متغيرات سلوكية ومجتمعية ألمت به وصيرته عنيفاً تجاه الآخر.. لدى البعض منه ديباجات جاهزة يدمغ بها الآخر دون تروٍ أو معرفة تفاصيل أي موضوع.
{ كان آخر ما توقعته أن يتعرض مطرب ملتزم ومحب لوطنه وشعبه كـ”أبو عركي البخيت” لهجوم (السابلة) وصبية المنتديات الإسفيرية بسبب غنائه في أمسية حقوق الإنسان التي نظمها الاتحاد الأوروبي، وتم فيها تنصيب عدد من الناشطين بجوائز حقوق الإنسان، وهو تقليد درج عليه الاتحاد الأوروبي بالسودان كل عام.
{ مهاجمو “أبو عركي” من خريجي مدرسة (الردم) الإسفيرية اختلط عليهم الأمر.. وأصبحوا لا يعرفون كيفية التخاطب مع رموزهم الإبداعية.. فهو ليس من صبية الغناء الذين عاثوا فساداً في الذوق العام.. ولا هو أحد الذين انكسروا في زمن الانكسارات المتتابعة.. ولا هو ممن ارتضى أن يرهن فنه لغير ما يؤمن به.. هم لا يستطيعون التفريق بين من ينحاز إلى الناس في أزماتهم.. ومن يعمل على ابتزازهم معنوياً كل صباح.. معذورون هم، لا يعرفون شيئاً عن “أبو عركي”.. هذا الرجل الذي أصبح الآن آخر الفنانين المحترمين الذين وهبوا أدواتهم لصالح مجتمعهم ووطنهم دون مقابل.. وآثر الصمت والتوقف عن الغناء في وقت أراق أغلبهم فنه على بلاط السلاطين طمعاً في عطية مزين.
{ لمن لا يعرفون الحقيقة.. “أبو عركي” لم يتوقف عن الغناء للناس بمزاجه الشخصي، ولكنه ممنوع من الغناء في الحفلات الجماهيرية.. ومشاركته في حفل الاتحاد الأوروبي لأن هذه الجهة مستقلة بذاتها.. وهي مناسبة عابرة وليست (مخملية) كما أدى البعض المغيبون والغافلون.
{ توقف “عركي” الإجباري عن الغناء هو من يدفع ثمنه الأغلى.. وهو أكثر المتضررين منه.. فهو رجل يمتهن الغناء.. وهو عمله الذي ينفق منه على أولاده وبيته وعلى نفسه، وبتوقفه عن الغناء فإن هذا الأمر يسد عليه باب رزقه الحلال لأولاده وبيته.
{ توقفه عن الغناء يدفع ثمنه من أيامه التي تذوي، ويخسر في كل يوم لا تعانق فيه كلمات أغانيه الأجيال الجديدة.. ورغم ذلك اختار “عركي” الطريق الأصعب والذي عجز أكثر المبدعين في التاريخ السوداني عن الالتزام به.. هو طريق الكبار الذي لا ينظر فيه إلى ما كسبه أو خسره من أموال.. ولكنه يحسب كل خطوة مشاها نحو طريقه الذي ارتضاه في الدفاع المستميت عن الشعب والفقراء والضعفاء وعن مبادئه التي لم يتزحزح عنها يوماً.. فلا كسر قناعاته يوماً.. ولا كسرته تلك القناعات بصعوبتها.
{ تحدثت معه قبل أسابيع قليلة.. سألته.. لماذا لا يخرج إلى الناس ليغني.. قال لي إنه سيرد على هذا السؤال بأغنيته التي أطلقها قبل فترة ويكفي عنوانها لذلك (الآن أنا.. ما عندي إحساس بالغُنا)، وإنه ليس لديه (نفس للغُنا) لأنه لا يستطيع أن يغني ويرى شعبه يعاني جوعاً ومرضاً وفقراً.. كان هذا رده وطريقته.. والآن عن أي نضالات يتحدث سابلة الانترنت وبعض المنعمين الذين يتنقلون بين العواصم الأوروبية يلهثون خلف رغباتهم النزقة؟
{ كان بإمكان “أبو عركي” أن يصبح من أثرى المطربين الآن لجماهيريته الواسعة ونجوميته التي لا يزال محتفظاً بها، والدليل جماهيريته الخرافية في حفلاته.. كان من الممكن أن يتزحزح قليلاً عن مواقفه المبدئية، أن يعيش في سرادق يلون مواقفه ويدهنها بطابع التزلف.. ولكنه اختار الطريق الأصعب الذي يتفق مع قدره الذي صيّره ناطقاً باسم الناس وأوجاعهم.
} مسامرة أخيرة
{ التقيت “أبو عركي البخيت” قبل نحو أربع سنوات وهو خارج من واجب عزاء في أحد أحياء بحري.. وناداني وقتها (تعال أدفر معاي عربيتي دي).. وسيارته من الموديلات القديمة للغاية.. ثم تمر السنوات وألتقيه قبل فترة قصيرة بجوار مستشفى “أمبريال” بالخرطوم وكنت أهم بالدخول إلى الصحيفة وكان كعادته خارجاً من المستشفى بعد زيارة أحد أصدقائه.. ثم أعاد التاريخ نفسه مرة أخرى، وقال لي: (تعال يا محمد أدفر معاي عربيتي دي)، وكانت ذات السيارة، ذات الموديل القديم، فخاطبته ممازحاً: (هسه لو سايرت الواقع شوية واتزحزحت عن مواقفك كنت ح تكون سايق أحدث الموديلات)، رمقني وقتها بنظرة ثاقبة (والناس البنغني ليهم ديل نقول ليهم شنو؟)..
هذا هو “أبو عركي”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية