بعد ومسافة
الصحفي المعتزل!
مصطفى أبوالعزائم
أدخل زميلنا الصحفي الأستاذ “عثمان الخليفة” المقيم حالياً بمدينة الأبيض، حاضرة شمال كردفان، أدخل مصطلحاً جديداً في دنيا الصحافة عندما أجرى مداخلة شيقة يوم أمس في برنامج فني خاص يتناول سير الشعراء والمبدعين، تم تقديمه من الإذاعة الرياضة (104 FM)، يقدمه الأستاذ “عبد الباري العجيل”، وكانت حلقة الأمس مخصصة للحديث عن الشاعر الكبير “سيد عبد العزيز” صاحب الدرر الحقيبية المعروفة من لدن “حاول يخفي نفسه” مروراً بـ”مداعب الغصن الرطيب” وانتهاءً بـ”قائد الأسطول” وما بين هذه الأغاني درر فرائد تعدّ من عيون الغناء السوداني.
لم أستمع للحلقة كاملة، بل التقطت منها بعض الحديث والمداخلات إذ كنت داخل محل تجاري يبدو أن صاحبه يحب الاستماع إلى الإذاعة الرياضية التي أحسب أنها قد نجحت في جذب آذان الشباب، وكثير ممن تجاوزوا مرحلة الشباب بما تقدمه من برامج هي جزء من اهتمامات الناس، لذلك لم أعجب من متابعة صاحب المتجر الشاب للإذاعة الرياضية، وانتبهت لأن الحديث كان عن أحد عباقرة الغناء السوداني من الشعراء، وهو المرحوم “سيد عبد العزيز”، وقد كنت ولازلت من المعجبين به وسأظل كذلك، وهو من القلائل الذين تمنيت لو أنني جلست إليهم قبل أن يغادروا هذه الدنيا، وهذا للأسف لم يحدث حتى أنني لم أشاهد الرجل والشاعر الكبير عياناً بياناً رغم أنني صديق لعدد من أبنائه وزميل لاثنين منهما هما الأستاذ “أسامة سيد عبد العزيز” الصحفي الكبير المتميز والمرحوم الأستاذ “أحمد سيد عبد العزيز” الذي رحل قبل سنوات قليلة فجأة ودون مقدمات.
نعود لموضوع المصطلح الجديد الذي أدخله زميلنا الصحفي الأستاذ “عثمان الخليفة”، فقد عرّف نفسه لمقدم البرنامج بأنه (الصحفي المعتزل) “عثمان الخليفة”، وقال إنه اعتزل العمل الصحفي منذ أربع سنوات وأقام هناك في مدينة الأبيض منذ ذلك الوقت، وقد عجبت لذلك الاعتزال وفي ظني ويقيني معاً أن الصحفي لا يعتزل، وهو مثل الزمار الذي يموت وإصبعه يلعب، وأحسب أن فترة العزلة لن تطول إذ لابد من زوال السبب في يوم من الأيام.
حقيقة أعجبني مصطلح (الصحفي المعتزل) وقفز إلى ذهني مباشرة أشهر مصطلح في عالم الصحافة الحديثة، وهو (الصحفي المحترف) الذي أصبح مصطلحاً واسع الانتشار بعد أن صدر كتاب بذات الاسم لصحفي أمريكي كبير هو “جون هوهنبرج” الذي شغل منصب مدير جائزة “بوليتزر” في الفترة الممتدة من العام 1954م وحتى العام 1976م، وهي أرفع جائزة أمريكية في مجال الصحافة، تعادل أوسكار السينما، ويتنافس المتنافسون عليها، فالذي يحمل لقب (فائز بجائزة بوليتزر) تنفتح له كل الأبواب بدءاً من أبواب البيت الأبيض وانتهاءً بأبواب البيوت التي تخفي من ورائها الأسرار.
أطلعت على كتاب (الصحفي المحترف) قبل سنوات، ويعدّ مرجعية لكل العاملين في مجال الصحافة أو الذين يرغبون في العمل بالصحافة أو الذين يدرسونها في الجامعات، وربما كان أهم ما في ذلك الكتاب بالنسبة لي– وقتها– أن النزوع للشك هو سمعة الصحافة والعلامة التي تميزها.. ثم هناك نقطة أساسية بل وجوهرية في ذلك الكتاب جاء فيها أنه ليس بمقدور أية صحيفة لن يكتب لها الاستمرار لفترة طويلة إذا كانت طبيعتها هي الهتاف والتطبيل، وإذا فشلت في دق نواقيس الخطر للتنبيه إلى نقائص المجتمع وعيوبه، وذلك– حسب وجهة نظر الكاتب الأمريكي– لأن الصحافة بمعناها الكبير إنما هي حث على التغيير والتحريض عليه، لذلك يظل التغيير هو الهدف المنشود مع ضرورة وجود عنصر المصداقية في كل ما يقوله ويكتبه الصحفي، وهذا يتطلب أن يثبت الصحفيون دائماً أنهم محل ثقة الناس وخاصة قراء صحفهم، وليثبتوا بمعنى آخر أنهم نواب الشعب وعيونهم التي ترى وآذانهم التي تسمع.
هنا أعود لمداخلة زميلنا الأستاذ “عثمان الخليفة”، وأقول له إن رسالته لم تنته وإن المشوار مازال أمامه طويلاً.. ولا نريد له اعتزالاً مبكراً مثلما أراد هو لنفسه، لكننا نريد له استراحة محارب، يعود بعدها للميدان.