السودانيون في الخرطوم
قبل عامين من الآن هبّت على الخرطوم رياح هجرة عربية من مصر، وهجرة أفريقية من الغرب والقرن الأفريقي، ومن حسنات الأزمة الاقتصادية غير المنظورة والآثار الإيجابية لنضوب البترول بعد إغلاق أنبوب الجنوب، وضعف إنتاج حقول بليلية وهجليج، أن توقفت موجات الهجرة خاصة من مصر الحبيبة.. ولكن الهجرة الأفريقية من غرب القارة ارتبطت بالتزوير والغش وغسيل الأموال وأعمال الدجل والشعوذة وتهريب المخدرات، ولا يبدو المجتمع السوداني، خاصة في الخرطوم ومدن الشمال، متسامحاً مع الهجرة الوافدة من غرب أفريقيا أو حتى الجنوبيين بعد انفصالهم، ما عادوا مرغوبين من بعض السياسيين المتأثرين (بايدولوجيا) منبر السلام، وبذات القدر يبدو مجتمع الخرطوم، والمدن الكبرى في الأوساط متسامحة مع الهجرة الوافدة من أثيوبيا واريتريا، مع أن الهجرة القادمة من غرب أفريقيا بكل جرائمها وسلبياتها أغلب مرتاديها من المسلمين، ومرتادو الهجرة من القرن الأفريقي أغلبيتهم من المسيحيين باستثناء الصوماليين الذين يتخذون الخرطوم معبراً لأوروبا وآسيا وأستراليا.
وينشط الصوماليون في تجارة العملة والتحويلات والتجارة المصرفية، بينما المصريون ولجوا قطاع الفندقة والمطاعم و(الشوايات) والحلويات، وقليل من المهن الهندسية والمعمارية!
للأستاذ الباحث “أحمد علي سبيل” كتاب لم يقرأ من النخب والمثقفين وإلا لثارت ثائرتهم على الكتاب الذي صدر تحت عنوان (مجتمع الخرطوم بين التعايش والصراع، دراسة المتغيرات في ربع قرن 1983-2007م)، و”سبيل” مثقف عميق غاص عميقاً في أحياء الخرطوم وتكوينها وأثر السياسة على المساكنة ودور الجنوبيين في النهضة العمرانية، وتوقع الباحث أن (تغشى) الخرطوم موجة تغييرات لصالح اللاجئين القادمين من القرن الأفريقي، قد يؤدي التغيير الديمغرافي في التركيبة إلى وصول حاكم أو والٍ أو رئيس لسدة الحكم في السودان خلال الـ(50) عاماً القادمة من أصول أثيوبية أو اريترية، وبدأ الباحث متصالحاً مع هذه الفرضية لأسباب تاريخية وثقافية لمجتمع الخرطوم.
إذا طفت اليوم أحياء الخرطوم الجنوبية القديمة السجانة والديوم من ديم القنا إلى ديم التعايشة ترى صدقية نبوءة الباحث “أحمد علي سبيل” وفد تغلغلت لغة الأمهرا حتى في (لافتات) المحلات التجارية والمقاهي، وتصدح مكبرات الصوت بالأغاني الحبشية والموسيقى الصاخبة، ولن تجرؤ محلية الخرطوم على نزع لافتة واحدة كتبت باللغة الأمهرية؛ لأسباب سياسية أو تصالح ثقافي مع واقع ينبغي التعايش معه، واللغة هي جزء من انتماء المجتمع الحضاري والثقافي.. ومحلية الخرطوم التي (شرعنت) للغة الأمهرية في أحيائها ومتاجرها وأسواقها تخوض حرب (دامس والغبراء) في مواجهة السودانيين الذين يعيشون (فريشة) على الأرض، بما فيهم معاقو الحرب.. وتمددت بائعات الشاي الحبشيات في الأسواق ولا تجرؤ السلطات على فحص هوياتهم، دع فحص أشياء أخرى، فهل التسامح وقبول الحبش له علاقة بالتاريخ القديم، وهجرة أصحاب رسول الله لأرض الأحباش، وهجرة الملك والإمام “الهادي” والجبهة الوطنية بقيادة “الصادق” و”الترابي” والشريف “حسين” والتجمع و(تهتدون)، وأخيراً “مالك عقار” ومفاوضات أديس.. أم تحت أبطيّ الحمّال رائحة أخرى؟!