أخبار

دروس "موغابي"

{ بعد أن بلغ الثلاثة والتسعين من العُمر لا يزال الرئيس المنتهية حقبته في زيمبابوي متمسكاً بالأمل في البقاء في السُلطة، حتى أرغمته القوى الاجتماعية والسياسية والعسكرية وأعضاء حزبه ونواب البرلمان، الذين كانوا يوالونه في كل شئ ويتبرعون في الدفاع عنه وحكومته، ولكنهم أخيراً استيقظ ضميرهم وانتصروا لأخلاقهم قبل شعبهم، ووقفوا بعيداً عن الرئيس الذي فقد القدرة على إدارة شؤون واحدة من أغنى البلدان الأفريقية وأكثرها جمالاً.. ولكنها كانت (تعيسة الحظ) زيمبابوي التي كانت تسمى (روديسيا الجنوبية) بعد انشقاق زامبيا عنها والتي كانت تسمى (روديسا الشمالية). رمت بها أقدارها في أحضان وقبضة رئيس شغوف بالسُلطة وحُب الذات.. ووجد الرئيس “روبرت موغابي”، دعماً من شعبه لم يجد رئيس أفريقي من قبله بسبب السياسات التي اتبعها في تحرير زيمبابوي من قبضة المستعمرين البيض الذين رحلوا بسُلطاتهم، ولكنهم نهبوا الأراضي الأفريقية الزراعية الغنية بعد تملكهم لمزارع الشاي والعنب والقشطة بوضع اليد وإساءة معاملة أصحابها الحقيقيين في محاولة لاستدامة الاستعمار.. يخرج المستعمر السياسي ويبقى المستعمر الاقتصادي ويخرج الاقتصادي ويبقى الثقافي يستلب الهوية ويفرض بمنطق القوة ثقافته.
وقاد “روبرت موغابي” ثورة التحرر الاقتصادي، وانهالت عليه الإدانات من الغرب الذي شوَّه صورته بالتحيزات العمياء وازدراء منهجه ولاحقته الشائعات والإدانات ولكنه صمد في وجه العاصفة.. وصبر في جلد وشجاعة على حرب قذرة خاضتها الدول الأوروبية مع “موغابي”، الذي رفض الاستسلام وقاوم حتى يأس من إزاحته الغربيون.. وقد أهدر “موغابي” فرصاً عديدة للتنحي عن السُلطة والاحتفاظ بشئ من ألق الصبا.. لكن مرض السُلطة وحُب الذات قد سيطر عليه.. وظن أنه وارث أرض المحاربين السود حتى قيام الساعة، لتباغته الأحداث في شهر نوفمبر الجاري وتضعه أمام خيارات صعبة ومحدودة جداً.. إما التنحي أو انتظار مصير غير معروف.. لم تنفع الرئيس “موغابي” في هرمه الأموال التي اكتنزها في حقائب ضخمة ولا حاشية الرئيس من المريدين الذين ارتبطت مصالحهم به.. فكان مصير “موغابي” الرحيل المُر من السُلطة.
{ حينما عاد الرئيس الأسبق “جعفر نميري” من منفاه الإجباري بالقاهرة في تسعينيات القرن الماضي لم يجد قصراً يأويه ولا فارهة يبدد بها وحشة الزمن.. وقد انفض عنه القريب والبعيد وانحسرت عنه الأضواء وتخلى عنه الرجال وتركوه يصارع محنة فراق السُلطة لوحده.. ذهبت إليه في أحد الأيام من أجل حوار صحافي لمجلة الوسط اللندنية.. تحت عنوان اختاره مدير مكتبها حينذاك “كمال حامد” الذي دربنا على صياغة الأخبار والتقارير على الطريقة أو المدرسة اللبنانية، وكان العنوان لسلسلة حوارات من حلقات (جعفر نميري يتذكر) !! بعد الفراغ من الحوارات التي أفسح لنا الرئيس داره لعدة أيام طلبت منه الإجابة على سؤال ماذا كان يشغل ذهنك طوال (16) عاماً من الحُكم من القضايا الشخصية والهموم الذاتية.. طلب الرئيس إغلاق جهاز التسجيل، وقال بصوت منخفض منذ 25 مايو حينما أجد نفسي وحيداً تراودني هواجس نهاية مايو.. هل مصيري حبل المشنقة؟ أم الموت المفاجئ؟ آخر ما كنت أفكر فيه أن يخرج الشعب متظاهراً طالباً رحيلي من الحكم.
“جعفر نميري” كان صادقاً في مشاعره وقد ثارت جموع الشعب ضده بحجة أن الفساد قد ملأ البحر والبر، وقد اكتشف الشعب بعد عودة “نميري” من المنفى أن الرجل كان شريفاً ونزيهاً.. فهل ما يثار الآن عن ثروات “روبرت موغابي” في زيمبابوي حقيقية أم هي محض تخرصات وأوهام من أعداء الرجل وما أكثرهم اليوم؟.. لكن بعد سنوات أن بقى الرجل على قيد الحياة أو ذهب للآخرة ستكتشف الحقيقة بيد أن “موغابي” بعد هذه السنوات لن يعمر طويلاً خاصة وإن فراق السُلطة يوهن البدن ويحطم النفس، وقد حمل “حسني مبارك” على “لحاف” للمحكمة بعد شهور من سقوط نظامه.. فهل تمتد أيام “موغابي” حتى يحكم عليه شعب زيمبابوي أم يغادر السُلطة والدنيا معاً؟..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية