أخبار

خربشات

(1)
حمل حقيبته التي هي مجرد خرقة بقايا جوال بالية تعرف عند أهالي تلك المناطق (بالخُرج) أو المُخلاية في بعض الأحيان، وفي مناطق بعينها.. وضع فأسه الصغيرة والفأس الكبيرة والمنجل والساطور.. وبقية (حشاشة) تآكلت لكثرة الاستعمال فتراب الأرض يأكل الحديد كما تأكل النار العشب الجاف.. وضعت “كلتومة” شرموط ولوبيا.. وويكة تم سحنها جيداً وقليل من الدقيق خوفاً من نوائب الدهر.. لبس “آدم” الشهير (بكركاب) تميمته التي أهداها إليه خاله “الفكي الطاهر” عند قدومه من تشاد قبل عشرين عاماً، وظل “آدم كركاب” محافظاً عليها.. ويعتقد جازماً أن حجاب “الفكي الطاهر” قد صرف عنه الذئاب يوم أن حاصرته في وادي شلنقو ولكنها لم تفتك به.. وذات الحجاب كان سبباً في حياته بعد أن لسعه الثعبان الشهير (بأبو كروكرو).
خرج “آدم كركاب” من قريته بعد حصاد إنتاج موسم زراعي فاشل لقلة الأمطار وكثرة الآفات الزراعية لم يحدد وجهته على وجه الدقة، لكنه خرج من أجل العمل.. نظرت “كلتومة” إليه كفتى أحلام وغمز إليها بعينه اليسرى لكنه تذكر أن ابنته عائشة كانت تراقب المشهد فخضت رأسها إلى الأرض وتظاهرت بلعبة (سفرجت) التي تداوم عليها مع فتيات القرية، قالت “كلتومة” لزوجها المسافر بالقطار.. وهي تمدحه (كركاب) مطرة بلا سحاب.. نوصيك بحفظ نفسك في بلاد دار صباح.. لا تقرب الأنداية ولا يغرنك فداديات الحبشة في القضارف.. تذكر أهلك وعشيرتك.
لا تخاف على “كلتومة” بت “هارون” إذا كان في البيت عيش دخن ولوبيا وويكة (ما في عوجة بتجي للعيال) أرجع لينا قبل نزول الأمطار.. إذا نقص العيش.. (لدينا الحمارة وثلاثة غنمايات).. مع السلامة يا (كركاب).
(2)
خرج من القرية في ذلك الصباح قبل طلوع الشمس حتى لا يسأله الناس عن وجهته ويعلمون سره.. وأسباب سفره وإلى أين؟ هل يذهب إلى منطقة هبيلا الزراعية حيث سوق العمل لنظافة المشاريع القديمة والعمل في (أم بحتي) وهي نظافة الأرض الجديدة من الأشجار الشوكية وصناعة الفحم؟ أم يتجه إلى الجزيرة حيث تتعدد الخيارات ما بين العمل في مصانع السُكر سكب القصب ويُسمى العمال (بالكتكو) أم يتجه إلى القضارف والحدود مع الحبشة لينضم لآلاف مثله يأتون حاملين حقائبهم بحثاً عن العمل الشاق المضني ويسمونهم (جنجقورا).. وضع “آدم كركاب” سفة التمباك بين أسنانه التي تآكلت وتغير لونها للأصفر والأحمر.. واستنشق رائحة التمباك من علبة النيفيا القديمة، التفت إلى القرية قبل أن ترسل الشمس أشعتها نظر إلى بيته وشاهد ثوب “كلتومة” الوحيد تقذفه الرياح وكان الثوب يلوح له بالوداع، فكر في الرجوع إلى المنزل وتأجيل السفر ليوم غدٍ لكنه تذكر أن القطار القادم من نيالا سيصل بعد ساعات وإذا تأخر عن الموعد عليه الانتظار لأسبوع قادم.. قبل أن يبلغ محطة السكة حديد وهو يتجنب المرور بالسوق والمقاهي.. سمع صوتاً ينادي (كركاب.. كركاب).. تجاهل النداء للمرة الأولى ولكن الصوت اقترب منه أكثر وشعر بأن هذا الصوت مألوف لديه.. “مصطفى جنقور” ماشي وين الليلة؟.. وأنت ماشي وين يا (كركاب)؟ والله البلد صعبة والخريف كعب.. والعيال محتاجين ما في طريقة غير الجزيرة، هل أنت كذلك؟، نعم أنا معي “موسى قيدوم” و”أبكر حسن”.. طريقنا واحد ومصيرنا مشترك.
ما عندنا ثمن التذاكر ولا مصاريف طريق.. نركب السطوح مع الدينكا والفور والمساليت ونصل الجزيرة الله كريم.. الجزيرة هي الخير وفرص العمل.. لا أنا أفضل الذهاب القضارف لم يبدأ الحصاد بعد.. يا أخي بعد إدخال الآليات الحديثة والحكومة ضيقت علينا أبواب الرزق.. مرت محطات القطار سراعاً الرهد.. أم روابة.. الوساع.. كوستي.. جبل موية.. سنار التقاطع التي وصلها القطار عند ذلك الصباح الشتوي البارد.. حدث خلاف بين مجموعة تفضل الذهاب إلى القضارف وبين “أبكر كركاب” الذي كان متمسكاً برأيه في النزول عند محطة سنار التقاطع والتوجه لقرية ديم المشايخة الواقعة شمال سنار حيث المزارع الكبيرة.. و(كماين) الطوب.. وأما التوجه إلى ود مدني والنزول عند محطة بركات ومن هناك إلى محالج القطن في مرنجان.. أثناء الحوار صعدت قوة من شرطة السكة حديد إلى سطوح القطار الذي توقف لتغيير الرأس بآخر جديد.. والشرطة لا تستطيع الصعود لأعلى سطوح عربات الركاب خوفاً من تهور البعض وخاصة الجنوبيين الغاضبين دوماً على القوات النظامية بعد أن بسطت الشرطة نفوذها على سطوح عربات القطار، قررت المجموعة الإذعان لرأي “كركاب” ومن محطة القطار توجهوا لسوق المدينة.
(3)
عناق طويل بين “أبكر كركاب” والتاجر “السماني الشيخ” الذي تجمعهما مصالح “السماني” تاجر يعمل في صناعة الطوب الحراري و”كركاب” من العمال الدائمين عنده.. قال “السماني” بصوته الناعم لحاجة “حسنة”.. الشاي بعد الفطور.. اتجه “كركاب” ورفاقه إلى المطعم.. الجوع قد طوى البطون ورائحة الشواء والفول جعلت “كركاب”: يرمي بسفة التمباك قبل الجلوس على الكراسي الحديدية.. أخذ عامل الطلبات.. يعرض بضاعته فول بالجبنة وفول سادة.. عدس، شية، كباب كستليتة.. جقاجق.. قال “مصطفى جنقور”.. جقاجق ما بطالة.. انتهره “كركاب” أسكت أنت ما عارف حاجة الجقاجق هي الكمونية ذاتها.. عاوزين شية وكستليتة.. وفول بالجبنة.. ولحمة بالفرن..
وأضاف ما عندكم أم فتفت ضحك “السماني” وقال أنت يا “كركاب” ما خليت أكل الأنداية حتى الآن والله يا “السماني” كبرنا.. وتبنا لله ورسوله.. إلا المريسة في المناسبات فقط.. وبعد شهور عديدة.. يا “كركاب” خاف الله أنت اليوم أصبحت في سن الأنبياء.. لسه ما خليت دي.. لكن يا “السماني” الطين والبحر لو ما زول وزن راسو بقدر عليه.. أشرب الشاي والقهوة وإن دعت الضرورة التمباك.. تدخل “مصطفى جنقور” هو زولك “كركاب” راسو الكبير دا داير ليه شركة تأمين عديل كده.. زول يشرب الشاي والقهوة والحليب والسجائر وبسف التمباك.. وقد التهم أربعتهم الطعام الدسم بطريقة جعلتهم مصدر دهشة عامل المطعم الذي كان يجلب الطعام.. دفع “السماني” ثمن الوجبة التي تكفي لعشرين من أبناء المدن في ساعة واحدة تم تجهيز طلبات العمال من دقيق وزيت وويكة.. ولوبيا.. وكثير من السمك الجاف الكجيك الذي تأتي به اللواري من الرنك وملكال.. اتجه العمال إلى ديم المشايخة وقد سألهم “السماني” هل تحتاجون لمبالغ مالية مصاريف ترسل لأولادكم في كردفان؟ صمت الجميع إلا “كركاب” قال لا.. نحن الآن في مرحلة بداية الشغل.. ساعات وبدأ العمال الأربعة في تجهيز (تاية) المبيت.. وتشييد تربيزة من الطوب للمعلم.. ونظافة قوالب الطوب لبداية موسم حصاد عرق الجبين في فصل الصيف الذي يمتد حتى منتصف مايو.. ونواصل.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية