الديوان

الفنان "عثمان الشفيع": تعال لي واسيني ولا أنت غالي!!

تمر اليوم كالنسمة العليلة والمعتقة ذكرى هرم ورقم إنساني ذواق، فنان مطرب فريد، عشق السودانيون وأدمنوا صوته، ولا زالوا يدمنون الاستماع لأغنياته الرائعة، لقب في بداية انطلاقته بفنان الشباب، إنه الراحل المقيم الأستاذ “عثمان الشفيع”، الذي ظل رقماً يصعب تجاوزه ونسيانه في تاريخ الغناء السوداني.
ويعتبر الراحل ” عثمان الشفيع” من رواد الجيل الثاني في الغناء السوداني أمثال “التاج مصطفى” و”العاقب محمد حسن” وآخرين لن تسمح المساحة بذكرهم واحداً واحداً.
بداية قوية
و”عثمان الشفيع” المولود في العام 1924م بمدينة شندي، والمتوفى في 14/9/1989م بأم درمان (الثورة الحارة الرابعة)، حيث منزله الذي انتقل إليه من حي (بانت)، ابتدر مسيرته الغنائية في (شندي)هاوياً يردد أغنيات الحقيبة، قبل أن ينتقل إلى الخرطوم، ويشرع في إنتاج أعمال خاصة له.
وخلال مسيرته (التطريبية) الطويلة تميز الراحل ” الشفيع” بصوته الرخيم وأدائه  الطروب وانتقائية بالغة الدقة للأشعار جيدة المبنى والمعنى، التي كتب معظمها رفيق دربه الشاعر الرقيق “محمد عوض الكريم القرشي” بجانب الكثير من الشعراء الأفذاذ مثل “مبارك المغربي” و”عبد المنعم عبد الحي” مثالاً لا حصراً.
أول من دق نحاس الغناء
واليوم الجمعة، إذ يصادف الذكرى (23) لرحيل مطربنا الكبير، لا يسعنا إلاّ أن نستدعي نص المرحوم ” مبارك المغربي” الذي أبكى به صوت ” الشفيع” العاشقين و (السميعة) الكبار، فكانت أغنية (الباسم الفتان) انطلاقة قوية في مضمار سباق الغناء في زمن (الكبار). ورويداً رويداً، ثبتَّ الراحل (قدميه) في الدرب الشاق، فهو أول من أدخل الآلات النحاسية في الأوركسترا السودانية، وأول من انتخب سكرتيراً لاتحاد الفنانين السودانيين حين كان السودان يستعد للاستقلال، وهو الذي قدم في تلك الفترة أغنيتيه الوطنيتين الشهيرتين ( وطن الجدود وجنود الوطن).
حادث سير وصداقة عمر
وفي سياق ذكراه التقت (المجهر) بصديقه الحميم الذي كان لصيقاً به خاصة في أيامه الأخيرة، العم ” الفاضل حسن أحمد إبراهيم” العاشق الولهان لـ”عثمان الشفيع” الذي كشف عن أن علاقته بالراحل بدأت بالإعجاب ثم الإدمان، حيث كان يسافر إلى ولايات السودان المختلفة ملاحقاً حفلاته، لكنه التقى “الشفيع” وجهاً لوجه وتحدث إليه عندما تعرض الراحل لحادث سير قطعت على إثره يده اليسار، وعن تفاصيل الحادثة قال العم ” حسن” إن “الشفيع” كان في طريقه إلى مدينة (شندي) للعزاء في وفاة أحد أقاربه، ولأنه كان في عجلة من أمره، ركب أول لوري صادفه ليلحق بالقطار، وعند حافة القضيب انقلب اللوري فأصيبت يد الراحل التي كانت ملتصقة بزجاجات المشروبات الغازية التي كان اللوري يحملها، فحجز لفترة وجيزة بمستشفى (شندي(، ثم نقل إلى (الخرطوم) وبترت يده عند (عضلة الساعد)، وكان ذلك في1967م.
طاحونة ملح.. وقيادة العربة بيد واحدة
ويمضي “الفاضل” موضحاً: أن ما لا يعرفه الناس الآن عن “الشفيع” أنه كانت له أخلاق النبلاء، وكان عصامياً قوي الشكيمة، حيثُ عمل منذ بداية حياته ترزياً، وظل يعول أسرته من هذه المهنة ولم يتخذ من الغناء حرفة ووظيفة على الإطلاق، بل ظل يمارس مهنته حتى بعد أن ذاع صيته وبزغ نجمه، وأشار ” حسن” إلى أن “الشفيع” كان يمتلك (طاحونة ملح) بمنزله بالثورة (الحارة الرابعة)، وكان يعمل بها بعد أن قطعت يده، كما كان يقود سيارته بيد واحدة، معتمداً على نفسه، وكان منزله  قبلة للضيوف يستقبلهم بترحاب وشوق كبيرين.
الفن من أجل الوطن
لم ينسِ “الفاضل” تلك اللحظة الأولى التي جمعته بالـ” الشفيع”، حين كان يعمل “الفاضل” في هيئة رعاية الناشئين (فرق الروابط) بنادي الجوهرة الأم درماني، وكان “الشفيع” يرعى هذا النادي ويهتم بالشباب، ومنذ ذلك الزمان توطدت العلاقة بينهما وأصبح يزوره دائماً، وامتدت العلاقة حتى غدت علاقتهما أسرية، وأشار “الفاضل” إلى أن الراحل كان مشاركاً وناشطاً في الحياة العامة، وكثيراً ما شارك في ملتقيات للشباب بأوروبا وتحديداً  في (وارسو) عاصمة (بولندا).
وأضاف: أن الراحل كان مهموماً بقضايا الشباب والوطن والنضال من أجل الاستقلال، وتغنى بالنشيد الوطني الحماسي (وطن الجدود) الذي صاغ كلماته الرائع “محمد عوض الكريم القرشي” الذي كان ناشطاً أيضاً في الحركة الوطنية بالأبيض.
الذكريات ( أغنية وابنة)
ويمضي صديق “الشفيع” المقرب في ذكرياته فيقول: إن “الشفيع” تزوج مرتين الأول لم ينجح، أما الثاني والأخير فقد كان في 1976م، وله منه بنتان هما (ذكريات وعزة)، وأضاف: الآن “ذكريات” طبيبة و”عزة” مهندسة مدنية، وأنهما تقيمان مع زوجيهما وأولادهما خارج السودان، في (قطر) و(مصر).
“خوجلي عثمان” عازف عود (الشفيع)
ليس الجمهور وحده، بل كان لـ”الشفيع” معجبون بين زملائه الفنانين وعلى رأسهم الفنان الذري “إبراهيم عوض” والعندليب الأسمر “زيدان” والرقيق “الخالدي”  والمبدع “خوجلي عثمان” والقدير “مصطفى سيد أحمد”، وكانوا جميعهم يحضرون إلى منزله ويحظون برعايته وتشجيعه، خاصة “خوجلي عثمان” الذي لازمه شاباً صغيراً، وكان يعزف له العود، ومقرباً جداً منه، ومعجب به حتى صار مطرباً له أغنياته الخاصة.
من جهة أخرى كشف ” الفاضل” عن أن “الشفيع” وبجانب “برعي” و”محمد عوض الكريم القرشي”، لحن معظم أغنياته بنفسه، وكان ملحناً فذاً وفريداً، وأعتبر “الفاضل” الراحل “الشفيع” رائد الفن السوداني الحديث من الجيل الثاني الذي طوّر الأغاني العاطفية والرومانسية والوطنية، واستطرد: كان يردد أغاني الحقيبة المبهرة لـ”سرور وخليل فرح” خاصة (في الضواحي، وناعس الأجفان)، وكشف عن أن المرحوم تأثر جداً بوفاة رفيق دربه الشاعر “محمد عوض الكريم القرشي” التي حدثت يوم زواجه (يوم حنته)، فنزعها وغادر معزياً من (شندي) إلى (الأبيض)، وكيف لا يفعل هذا وقد قدما سوياً فناً راقياً وخالداً، وتظل أغنيات مثل ( يا فتاتي، خداري، يا ظالم، شاغل الأفكار، القطار المر، وفي الشاطئ يا حبان)، تمثل عقوداً نضيدة من ثنائية “الشفيع” و”القرشي”.
أوصى بعدم وضع شواهد على قبره
وعن آخر أيامه (المرحوم) قال “الفاضل”: إنه عندما قابله آخر مرة كانت له قطعة أرض في (الحتانة) يريد أن يشيدها، ثم سافرت إليه، وتركته يعاني المرض، إلى أن توفاه الله في 14/9/1989م، ودفن بمقابر “أحمد شرفي” بأم درمان، وكانت آخر وصاياه هي أن يدفن وأن لا تشيد على قبره شواهد، مشيراً إلى أن هذا يدل على عميق فهمه، وذكر أنه مهما تحدث عن “الشفيع” فلن يوفيه حقه.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية