مسامرات
“النصري”..ضد الهذيان
محمد إبراهيم الحاج
* يقف المطرب “محمد النصري” في منطقته الخاصة التي لا ينازعه عليها أحد..هو واحد من الرهانات الفنية الكبيرة التي يقع على عاتقها قيادة الوعي الجماهيري ..لأنه تخيَّر أن يكون هكذا مطرباً ضد الهذيان.
*خيارات “النصري” الغنائية لم تكن خبط عشواء..ولذا لم تكن نجاحاته الجماهيرية مجرَّد (ضربة لازب)، ولكنها كانت نتاج صبر ونحت على صخر الواقع وإثبات تجربة متفرِّدة في أغنية الطنبور.
*مسيرة “النصري” أشبه بمسيرة كبار المطربين في البلاد فهي تتكئ على مشروع غنائي واضح الأركان ومحدَّد المعالم.
*راهن “النصري” منذ بداياته على (الكلمة) غير المألوفة التي تميِّز شعراء منطقة منحنى النيل..فأغلب الشعراء في تلك المنطقة يتميِّزون بالقدرة الفائقة على تصوير المشاعر الإنسانية بدقة متناهية..كما أنه يمكنهم ملامسة الواقع وتشريحه بلا رتوش ولا (تنطُّع).
*رهانات “النصري” الفنية ظهرت في انحيازه للكلمة الملهمة أو القوية أو المباشرة أو التي تحتوي على قدر كبير من مخاطبة هموم الشباب وقضاياهم..لم يرهن تجربته لمدرسة شعرية واحدة فتنقَّل بين عدة مدارس أكسبت مشروعه نضجاً وتنوعاً وثراءً.. فحمل أحلام الراحل “محمد الحسن سالم حميد” الإنسانية والوطنية ووقع على عاتق حنجرته الساطعة عبء إيصالها إلى الناس في (ست الدار) و(سوقني معاك يا حمام) و (يا أمنا) و(الخدير الشال وبدع) وغيرها، كما شارك بثنائية مبهرة مع “محمد أحمد الحبيب” صاحب العابرات القصائد التي نسجت خيوط رقة الرومانسية في زمن يحتفي بالماديات..كما غنى “النصري” لعدد كبير من الشعراء منهم “الكنيبلي” و “سيد أحمد عبد الحميد” و”محمد سفلة” و”خليفة عثمان” و”عبد القادر محمـد عبد القادر” وغيرهم.
* هذا الدفق الشعري الثري وضع “النصري” في قيادة أغنية الطنبور الحديثة..فهو يملك الحس الإبداعي المتمثل في خياراته الفنية..التي تنحاز إلى قضايا الشباب والوطن.
* ولهذا فقط يمكن أن نطلق على “النصري” أنه مطرب ضد الهذيان..مطرب قادر ربما لم تظهر كثير من قدراته الإبداعية بالشكل الذي يتسق مع حجم موهبته وكاريزماه وجماهيريته.
* “النصري” وصل إلى نجومية كادت أن تكون (مطلقة) في أغنية الطنبور..بل أنه تعدى من كونه مطرب منطقة جغرافية محدَّدة إلى مطرب يستمع له كل السودانيين باختلاف ثقافاتهم.
*ولكن هذه النجومية لم يستثمرها “النصري” بالشكل الصحيح..لم يستثمر قدرته على تحريك كل الطاقات الشبابية التي تعشقه حد الوله والجنون..وربما تلك هي المعضلة التي تجعل مقولة (عجز القادرين على التمام) تنطبق على “النصري”.
*حقق “النصري” حلمه الشخصي بأن صار مطرباً كبيراً وحقق ذاته في مرحلة عمرية باكرة للغاية.
*ولكن ثمة أحلام أخرى كان على “النصري” أن يلتفت لها..يسخِّر لها قدرته على تجييش هذا الشباب المولع بغنائه..والذي يتماهى مع مضامين أغنياته.
* لا ننتظر منه أن يجلس في بيته وينتظر مواعيد حفلاته..يغني بها ثم يعود إلى منزله مرة أخرى في مروي شرق ليبتعد مجدَّداً عن الناس والأضواء والمشاكل.
*قدر “النصري” أنه صار مطرباً..مطرباً مؤثراً..له القدرة على بث الوعي الإنساني والوطني.
*وهذا القدر يتطلَّب منه بالضرورة أن يساند كثيراً من القضايا الإنسانية الملحة والعاجلة..يتطلَّب منه أن يكون أكثر فاعلية في الترويج لتاريخ بلدته، التليد..أن يؤشر على أنه بالقرب من منزله توجد حضارات تبلغ آلاف السنوات قبل الميلاد..يتطلَّب منه أن يمسك بخاصرة كل ما يؤرق مضاجع الناس ويهبها بعضاً من زمنه وقلقه..ووقتها سوف يكون “النصري” قد أكمل دورته كفنان اطَّلع بدوره الوطني والإنساني.
مسامرة أخيرة
ﻳﻮﻡ جهجهك ﺻﻮﺕ ﺍﻟﺮﻋﺪ ﺑﺮﻕ ﺍﻟﺨﺮﻳﻒ ﻣﺎ
ﻭﺟَّﻬﻚ
ﻳﻮﻡ ﺷﺪ ﺣﺎﺩﻳﻚ ﻭﺍﺑﺘﻌﺪ ﻧﻌﺶ ﺍﻟﻀﻤﻴﺮ ﻣﺎ
ﻧﺒَّﻬﻚ
ﻳﺎ الواقفة في ﻣﻔﺮﻕ ﺩﺭﻭﺏ ﻳﺎﻟﺨﺎيفة ﻣﻦ
ﺍلفي ﺍﻟﻐﻴﻮﺏ
ﻣﻦ ﺩﺭﺑﻲ ﺷﻦ ﺩﺍﻳﺮ ﻳﺸﺪﻫﻚ
ﻣﺎ ﻧﺤﻦ ﻳﺎ ﺷﺒﻪ ﺍﻟﺒﺪﺭ ﻭﺍﺭﺛﻴﻦ ﻣﻦ أﻳﻮﺏ ﺍﻟﺼﺒﺮ
ﺿﺎﻳﻘﻴﻦ ﺗﺒﺎﺭﻳﺢ ﺍﻟﻐﺮﺍﻡ ﻭﺍﻟﻐﺮبة ﻭﺍﻟﺸﻮﻕ
ﺍﻟﺠﻤﺮ
محمد سفلة