الديوان

رسائل الأحزان والوجد.. هل انتهى (العهد).. أم تجدد؟!

صال سعاة البريد وجالوا ربوع السودان المختلفة مدينة مدينه وقرية قرية، وباباً باب، حاملين للناس أفراحهم وأحزانهم، وبشاراتهم، وحاملين لهم أيضاً غناءً وثقافة وفكراً عبر الدوريات والكتب والمراجع، قادحين لوجدانهم وطارقين لقلوبهم برسائل العشق المبين.
وظل البريد منذ (هدهد) سيدنا سليمان، إلى أن حُمل على أجنحة الحمام الزاجل كأول رسول مؤتمن عليه، ومروراً بصهوات الخيل والإبل، ثم الرجال راجلين بسرعة أو تمهل، لكنه ما أن غاص و(غرق) في بطون العولمة والتقنيات ووسائل الاتصال الحديثة، فقد الكثير من (سخونة) الشوق وطازج الأخبار وألم الأحزان،              ووخز العشق، ليس ذلك فحسب، بل فقد أيضاً تلك اللهفة والترقب، فخفتت دقات القلوب على طرقات الساعي.
غيرك ما (بريد)
ولأهمية البريد وبوصفه الناقل الوجداني لمشاعر العشاق والبوصلة التي ترشدهم سواء الطريق، فقد اهتم وتغنى له كثير من الشعراء والفنانين بكلمات ما زالت تُحدث دوياً في القلب وتغازل الوجدان،  ومن ذلك ما نظمه الشاعر الفذ “حسن الزبير” كلمات مصحوبة بالملامة ومنضدة بالترقب والضعف الإنساني النبيل: 
البريدو مالو اتاخر بريدو
لا خبر لا بريدو باين
نحن منتظرين نعاين
لا فراقو علينا هاين
وما بفرق بينا كائن
وأيضا تلك التي في كلمات الدكتور “عمر محمود خالد” وغناء “عاصم البنا” التي يؤكد من خلالها وعبر ساعي البريد (ريدته) المفرطة، التي لا يستحقها أحد سواه:
بالله يا ساعي البريد
سلم علي الزول البعيد
قول ليهو غيرك ما بريد
أنا ما بريد أنا ما بريد
()
مواثيق العشق و(أمبيكي) الغرام
وفي طيات أغنيات البريد ـ انعقدت ووقعت وأبرمت الكثير من الاتفاقيات بين العاشقين، بعضها نقض وأنفض سامرها، وبعض ظل ملتزماً بمواثيقه وعهوده، لكن كلها أكدت على ضرورة تطبيق الاتفاقيات كما وردت في (العهد):
حبيبي اكتب لي وأنا اكتب ليك
بالحاصل لي والحاصل ليك
وهذه شكوى أحدهم، يبدو أنه تعرض لحصار عاطفي ومقاطعة وجدانية، فتبدت لوعته سيما أنه يعاني ويلات الغربة ورفيقته ضربت بالعهد ظهر العلاقة، فتغنى بها “الجابري” لحناً طروباً وندياً
ما في حتى رسالة واحدة بيها أتصبر شوية
والوعد بيناتنا إنك كل يوم ترسل إليّ
هل يجوز والغربة حارة بالخطاب تبخل عليّ 
ومن بعض ما أنفض من التزامات العشق التي كان البريد (أمبيكي) وساطتها وآليتها الرفيعة، ونجم عنها فراق مبين وانفصال لا حلم للعودة بعده، نورد نماذج ربما (تنفع) منصات الساسة وتفيد (تفاوضهم):
رجع لي رسايلي
والرسائل العندي شيله شيله
والصور لو قلت برضو
وكل ذكرى ريد جميلة شيله شيله
()
وفي سياق (الزعل) ذاته، تساءل آخر عن سبب (طناش) محبوبته وعدم إيلائها رسائله ما تستحق من رعاية واهتمام، مفترضاً غضبها و(زعلها)، ومتسائلاً في ذات الوقت عن السبب الحقيقي وراء هذا (الطناش):
رسلت ليك أجمل خطاب
لليلة ردك ما وصل
زعلانة ولا شنو الحصل
واتهم شاعر ذات الأغنية التي يتغنى بها الفنان ” كمال ترباس” ساعي البريد، بأنه لما تحسس بأنفه مقدار الغرام والهيام الذي يحمله بيديه ( عمل نايم) بالرسالة ولم يوصلها لوجهتها: 
أنا عندي ظن ساعي البريد
شم العبير عجبو الكلام
نايم عمل
()
يد سلفت ودين مستحق
هذا وقد لعبت مؤسسة البريد دوراً وطنياً كبيراً وأسهمت بفعالية في الاستقلال، وأن عدداً من أعضاء الجناح المدني للثورة كانوا من الفاعلين في مصلحة البريد، فضلاً عن كون عدداً كبيراً من الشعراء والكتاب والفنانين السودانيين ذائعي الصيت من منسوبي هذه المؤسسة الرائدة، ومنهم مثالاً لا حصراً، الشعراء والكتاب والفنانون “مصطفى سند، عبد الله النجيب، إبراهيم الرشيد،عرفات محمد عبد الله، جعفر حامد البشير، عبد الرحمن مختار، صالح رجب، الشفيع عبد العزيز، حافظ عبد الرحمن، التاج مكي وخليل فرح”. 
تكتيكات الغناء (البريدي)
وبذات (الحنية) التي اتسمت بها أغنيات (الشايقية)، تغنى الفنان “صديق أحمد” مبدياً جرسته وشوقه لـ( شوفة) محبوبته، مستجدياً  والده بالسماح له السفر لرؤية (زولتو) بعد أن أعياه الهجر وانقطعت الرسائل، واستنجد في ذلك بالبريد:
خلوني ألسافر أبوي لو كان في إجازة العيد
أمشي وازور حبيبي الغالي داير أوفيه حق الريد
عشان يا يابا من يوم روح ما جاب لي منو بريد
ولكن أحدهم فارق (تكنيك) “صديق أحمد” حين لم تحتمل روحه الفراق، وأرسل في إثرها محبوبته سرباً من الحمام (واحدة تلو الأخرى) لتقصي أخبارها، فقال في ذلك:
طير يا حمام وأفرد جناحك رفرفه
وشيل روحي فوق جو القضارف طوفها
قول ليها قلبي المن نشوءه موالفها
فلاش باك
إلى ذلك يقول تاريخ البريد في السودان، إن افتتاح أول مكتب في السودان كان في مدينة سواكن، وبحسب (جاك ديفر) رئيس جمعية الطوابع السودانية في وقت سابق، أن أول مكتب للبريد في الخرطوم افتتح عام 1873م، وكان يستخدم الطوابة البريدية المصرية، وكان وقتها يصل الخطاب المرسل من القاهرة إلى الخرطوم خلال (30) إلى (50) يوماً. وشهد العام 1898م، أول طوابع بريدية سودانية عليها صورة الجمل الشهيرة الذي يمتطيه (ود الفراش)، وصمم هذا الطابع السيد (إدوارد ستانتون).
وهكذا مصمم هذه الطابعة، وهكذا تدرج وتطور البريد في السودان، فيم (توقف) سيل الأشعار والأغنيات الهادر الذي يحتفي بالعشق والحب والرسائل إلى أن تحول إلى شركة أكثر حداثة باسم (سودا بوست) الآن.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية