لماذا العنف؟
ربما كثير من الناس لا يعلم موقع “كالوقي” في خارطة الوطن.. ولن ينشغل بها أحد حتى لو مات العشرات من قاطنيها، لأن المصريين لهم مثل يقول: (البعيد عن العين بعيد عن القلب).. لكن ما بين “كالوقي” في أقصى الجنوب الجديد وحلفا التي احتفظت بمكانتها التاريخية في أقصى الشمال خيط رفيع جداً يتمثَّل في احتجاجات المواطنين على الآثار الناجمة عن مشروعات التنمية سواءً أكانت مصانع لمخلفات التعدين أو سدود تغمر الأرض بالماء، وترغم السكان على الهجرة قسراً، كما تهدَّمت حلفا على قول “فكري أبو القاسم” المبدع الذي ظلمه الإعلام وظلمته الصحافة بحجب مقالاته عن القراء.
في “كالوقي” أحد أغنى المحليات في جنوب كردفان وقعت أحداث دامية بطلتها الحكومة التي تضع الأزمات بنفسها، ثم ترمي بالتهم في وجه المعارضة العميلة والمتربصين بالمشروع الحضاري الذي لم يبلغ أمثال “كالوقي” بعد، حتى شاخ المشروع وهرم وبدت عليه علامات الكبر.. في “كالوقي” الغنية بالذهب والثرية بالتاريخ، حيث غار الإمام “المهدي” في قدير. تشاجر المعتمد مع الأهالي الرافضين لقيام مصانع لاستخلاص الذهب من تراب مخلَّفات التعدين الأهلي المعروف (بالكرتة).. وبدأ الشجار منذ عام، الأهالي يقولون استناداً على أقوال علماء ومختصين في الجيولوجيا والبيئة. إن مادتَيْ ” السيانيد والزئبق” قاتلتان للإنسان والحيوان، والأخير أغلى أحياناً من مالكه، ومن أجل بقرة واحدة صفراء فاقع لونها.. الناس يقتلون ويتمرَّدون على الدولة، مثلما تمرَّد “مناوي” و”عبد الله أبكر” في بواكير ثورتهما، كما يطلقون عليها، بسبب (ناقة) أو بعير.. الحكومة لا تقول شيئاً مفيداً، ولكنها هي من يستورد السم القاتل “السيانيد والزئبق الأبيض”، وإذا سأل المواطنون وزير العدل البروفيسور “هاشم علي سالم” فإن إجابته مثل الحديث عن الحوار الوطني وما أدراك ما الحوار الوطني.. وكان في قديم الزمان وزير اسمه “كمال عبد اللطيف” أكثر دقة في التعبير عن وزارته ومسؤولياتها القانونية عن حماية البيئة والإنسان من السم القاتل، كما يزعم بعض أساتذة الجامعات.. ووجدت أحزاب المعارضة (ضالتها) في مناخ التباغض والتجاذب بين المواطنين والحكومة، وأخذ حزبا المؤتمر السوداني وحزب البعث على عاتقهما توزيع المنشورات عن خطر استخدام المواد الكيماوية في معالجة مخلفات التعدين.. وحزب المؤتمر السوداني وحزب البعث لا أحد يلومهما في أداء واجبهما في التنوير وتثقيف المواطنين وحتى تحريضهم على رفض قيام المصانع إن كان في ذلك مصلحة للمواطنين.. ولكن لماذا تدفن الحكومة رأسها في رمال وتراب الكرتة وتترك (فسِيّتها) تنتاشها الرياح.
منطقة مثل “كالوقي” تنتشر فيها الأسلحة ولا تزال قوات التمرُّد قريبة منها.. لذلك اختارت الحكومة تقنين حمل السلاح كمرحلة أولى قبل نزعه بالتي هي أخشن، لذلك حصد الرصاص روح طفلاً وجرح العشرات، حينما تحرَّش المتظاهرون بأحد قادة الطلاب وتحرَّشوا بعمدة المنطقة الذي يجمع بين الإدارة الأهلية والتمثيل النيابي للمواطنين، وتم حرق منزل المعتمد وتهشيم سيارة الدولة ولاذ بالجيش لحمايته، وكل هؤلاء المعتدى عليهم من المتظاهرين متهمون في نظر المواطنين بالتواطؤ المصلحي مع شركات قادمة من الخرطوم لاستخلاص الذهب، ولكنها تقتل الإنسان بالبطء والحيوان بالعاجل.. وقد تعرَّض وفد من الشركة السودانية للموارد المعدنية، حاول تنوير المواطنين، للرشق بالحجارة، طبعاً مع مراعاة الضيافة، والآن المشهد محتقن.
الوالي د.”عيسى آدم أبكر” يملك شجاعة لم يسبقه عليها والٍ آخر في إعفاء وفصل الوزراء والمعتمدين متى ما ثبت فشل أحدهم، ولكن تظاهرات “كالوقي” أسبابها خارج دائرة اختصاصات الوالي، الأزمة هنا في الخرطوم وتحت طاولة الوزير “هاشم علي سالم”، إما حظر استخدام المواد السامة نهائياً في مناطق الأمطار والخيران، وإما إثبات إن هذه المواد غير ضارة بصحة الإنسان، وبالتالي ملاحقة المروِّجين لمخاطرها من أطباء وأساتذة جامعات وأحزاب وحماية المواطنين من إدعاءاتهم، ولكن لا لحالة الصمت المريب من وزارة المعادن.