أخبار

الرحيل والردى

بدأت الأبيض عاصمة كردفان صبيحة أمس (الأحد)، كئيبة يخيِّم عليها الكسل والشحوب، المسافة بين حي الصالحين في جنوب المدينة وحتى وسط سوق المدينة تخلو من المارة وحركة الطلاب والطالبات متثاقلة والدنيا بداية أسبوع. إستاد الأبيض أو قلعة شيكان تحيط بها الأشجار الوارفة. بائعات الشاي ينتظرن رزقهن بعد أن حرمهن “شريف الفاضل” معتمد شيكان من لقمة صغيرة يحصلن عليها بعرق الجبين في هجعة الليل.
اليوم الأبيض كغير عادتها عابسة الوجه كأنها امرأة قتل زوجها يوم أن وضعت مولودها الأول. في مطار الأبيض سألت الأخ العقيد (م) “كرتم” مدير المراسم عن مولانا “أحمد هارون”، وقال إنه يستريح من وعثاء السفر الطويل منذ أسبوعين في إحدى البلدان بعد أن أطلق سراحه مرتين الأولى بإجازة سنوية، والثانية بانقشاع سحابة المحكمة الجنائية الدولية التي أصبحت تنعق في عالم لم يعد يسمع إليها بشأن السودان والسودانيين.
سحابة الحزن التي خيَّمت على الأبيض حملتها رياح الشتاء الدافئ حتى اليوم وأمطرت السحابة دموعاً من الدم بإعلان رحيل مر لأهل كردفان شمالها وجنوبها غربها وشرقها، بدر البدور “بكري أحمد عديل” الشرتاي الذي ظل يظلل الوطن بعطاء امتد لأكثر من خمسين عاماً، في الشأن العام ما بين هجير المعتقلات وغياهب السجون ومنابر الخطابة وكرسي الوزارة وسلطة الحاكم، و”بكري” لا تغيِّره عِيشة رغدة ولا تهزه عاصفة فجَّة.
تبكيك اليوم بنات الغريسية في النهود والدقاقيم في صقع الجمل والعساكر في الخوي، ويرقد الألم والوجع في بطاح قليصة ويتوجَّع لفقدك الرجال في السعاته وطقنو وايك أم راكوبة وتفيض دموع الشرتاي “عديل” وتغمر بادية المسيرية وينتحب لفراقك “مختار بابو نمر” ويشعر “بقادي محمد حماد أسوسة” في الحمادي باليتم ويخاف “الاعيسر” في بادية الكواهلة بأم بادر بفجيعة كردفان ويعزي السير “علي التوم” ويهاتف الغالي تمر السوق في أرض دار حامد، لأن رحيل “بكري عديل” نبأ مفزع أناخ بعيره في كردفان اليوم.
“بكري عديل” الإنسان يمسك بيدك حينما تدخل منزله بالحارة السادسة بأم درمان، ويعاتبك برقة وأبوة مالك طوَّلت مني كده ؟عَرَبك كيف حالهم؟ وبيت “بكري” عديل يدخله الزائر وقت شاء لا يغلق باب الشارع إلا بعد منتصف الليل، ولكن الباب المفتوح على كل الناس سيغلق بعد الأيام، وقد ماتت لمبة مشعة تضئ سماء الوطن.
آخر أيامه في هذه الدنيا كان يبدو دوماً مطمئناً بأن البلد ينتظرها مستقبل أفضل من الحاضر تجلس إليه يحدثك عن هول الصحراء وعن وحشة السجون التي تبدِّدها مسبحته التي لا تفارق أصبعيه حتى سقطت أمس، وتركها في فراشه وذهب لـ”أحمد شرفي” مطمئناً يشعر بالرضا عن نفسه والآخرين من حوله.
تاريخ يرحل وشمعة تموت وذكريات لم تدوَّن بعد عن حركة يوليو ستة وسبعين، وشهادة للتاريخ لم يسجِّلها “بكري” عن “عباس برشم” و”محمد الإحيمر” و”محمد نور سعد” مات وفي صدره أسرار وفي جعبته تاريخ وفي مخيلته أشياء وأشياء.
غاب عنا “بكري عديل” وهو مثل نجمة فصل النطح، أشد فصول الصيف توهجاً للنجوم ليلاً، ورحل “بكري” الإنسان الشرتاي الزعيم فكيف تركتنا من بعدك يتامى؟.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية