رأي

بُعد ومسافة

الخبر في الصحافة السودانية
مصطفى أبوالعزائم
أحد الزملاء من أهل الصحافة انتقد الصحف السودانية وقال إن معظمها ليست لديها أجهزة راديو لمتابعة الإذاعات ذات المكاتب المنتشرة في العالم لرصد الأخبار الصحيحة، وقد جاء ذلك النقد من الزميل المحترم في واحدة من مجموعات التواصل الاجتماعي بالتطبيق المعروف باسم (الواتساب)، وهي مجموعة تضم عدداً من  الوزراء والمسؤولين وأهل السياسة وعدداً مقدراً من أهل الصحافة وكُتّاب الرأي، وقال الزميل المحترم إن الواجب يقتضي تخصيص أجهزة رصد بالراديو لوكالات الأنباء العالمية التي لها وجود في كل العواصم والمدن العالمية، مشيراً في ذات الوقت إلى أن الصحف السودانية في السابق كانت ترصد وتكتب اسم المصدر في بداية الخبر، وقد ترحم الزميل على صحافتنا زمان، وطلب أن يتقبل أصحاب الصحف نقده ذاك بروح إيجابية بالقدر الذي ظل الناس يتقبلون به انتقاداتهم المتواصلة التي ينشرونها في صحفهم.

توقعت أن تحظى مداخلة الأخ الكريم باهتمام أعضاء المجموعة وأن يتم الرد والتعقيب على رأيه ذاك، لكن هذا لم يحدث للأسف الشديد حتى من صاحبكم نفسه الذي ظل ينتظر حتى اللحظة بلا جدوى، فقرر أن يكتب رأيه خارج دائرة المجموعة ليكون منشوراً للعلن من خلال هذه الزاوية اليومية، ثم يقوم بإرساله لذات المجموعة ومجموعات أخرى قد يكون رأي زميلنا المحترم قد بلغها أو وصل إليها مباشرة أو عن طريق النقل، وهذا الأمر نحسب أنه يهم كل أهل الصحافة والإعلام لأن أكثر هذه الوسائط تعتمد في أخبارها العالمية على ما تنشره وكالات الأنباء العالمية المعروفة مثل (رويترز) و (أ. ف. ب) و( د. ب. ا) و(الأسوشيتد برس) و(اليونايتد برس) ووكالة الأنباء الروسية ووكالة أنباء الصين (شينخوا) وغيرها من وكالات الشرق والغرب.
قبل الرد على ذلك الاتهام الذي طال الصحافة السودانية- وهو غير صحيح- أود أن أروي قصة حقيقية حدثت لي في بدايات عملي بالصحافة في صحيفة (الأيام) الغراء أول ثمانينيات القرن الماضي وكنت محرراً للسهرة في ذلك اليوم، ومحرر السهرة هو الصحفي المكلف من قبل رئيس التحرير أو من ينوب عنه للإشراف على تجهيز ومتابعة الصفحة الأولى إلى لحظة دخولها المطبعة، وكان رئيس التحرير آنذاك أستاذنا الكبير الراحل “حسن ساتي”، وكان وقتها يشارك في تغطية أعمال إحدى القمم العربية بالمملكة المغربية برفقة الرئيس الأسبق الراحل “جعفر محمد نميري” ومعه من الصحفيين أستاذنا وأستاذ الأجيال الكبير “فضل الله محمد” رئيس تحرير صحيفة (الصحافة) في ذلك الوقت، وكان الأستاذان يبعثان برسالة مشتركة تنشر في الصحيفتين باسميهما معاً، وكنتُ مهتماً بتلك القمة وأتابع أخبارها من وكالات الأنباء والإذاعات الأجنبية والعربية لأهمية ما تناقشه وهو مشروع الملك فهد للسلام بالشرق الأوسط، وكان بالصحف في ذلك الوقت قسم يسمى قسم الالتقاط يتبع لإدارة الأخبار تتم من خلاله متابعة الأخبار العالمية التي تجد اهتماماً كبيراً من قراء الصحف حيث لم تكن هناك فضائيات تنقل أخبار العالم ساعة بساعة ولحظة بلحظة.

   الشاهد.. تسلمت الرسالة المشتركة للأستاذين المرحوم “حسن ساتي” و”فضل الله محمد” ووقفت على تصميمها وإبراز عناوينها الرئيسية وفيها أن القمة العربية بدأت اليوم (أمس) وستواصل أعمالها غداً (اليوم) مع استعراض لجدول أعمالها، ثم خطر ببالي أن أتابع التفاصيل بصورة دقيقة من خلال إحدى الإذاعات العالمية واستمعت لنشرة إخبارية عند الساعة الحادية عشرة ليلاً بتوقيت السودان فوجئت فيها بأن القمة تأجلت وألغيت بسبب خلافات بين القادة العرب حول مشروع الملك فهد للسلام في الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى تأجيل القمة العربية الثانية عشرة في فاس، وقد كان ذلك في الخامس والعشرين من نوفمبر 1981م، وقد كان التأجيل مفاجئاً وغير متوقع. هنا وبعد أن علمت بالتأجيل المفاجئ قمت بكتابة مقدمة جديدة للخبر بدأتها بقرار التأجيل المفاجئ ولم أضف لرسالة “فاس” تلك إلا عبارة: (وكانت القمة قد بدأت أعمالها يوم أمس بخطاب ألقاه رئيس القمة السابقة جاء فيه… كذا وكذا) ثم ربطت الخبر المرسل من “فاس” بالتغييرات التي قمت بها ولم أكن منزعجاً ولم يستغرق الأمر كثير وقتٍ بالنسبة لي وصدرت الصحيفة بعنوان كبير (تأجيل مفاجئ للقمة العربية في فاس)، وعندما بدأ اليوم التالي احتفى بي رئيس التحرير بالإنابة ورئيس قسم الأخبار لحسن التصرف والمتابعة وعندما عاد أستاذنا “حسن ساتي”- رحمه الله- من رحلته تلك تم تحفيزي بمبلغ مالي “محترم” يساوي راتبي مرتين.
القصة السابقة مهمة للربط بينها وبين ما قال به زميلنا العزيز في إحدى مجموعات التواصل الاجتماعي، ولإثبات أهمية المتابعة الدقيقة للأخبار حتى مثول الصحيفة للطبع، لكنني اختلف معه في وجود (راديو) بالصحف للمتابعة، فهناك الفضائيات الكثير المنتشرة في فضاءات العالم وبكل اللغات تتابع الأحداث ساعة بساعة ولحظة بلحظة، وكذلك هناك ما هو أعظم من ذلك وهو ثورة الاتصالات التي مكنت الجميع من متابعة الأحداث من مواقع وكالات الأنباء دون حاجة لوسيط، وهو ما يتيح لمحرر السهرة بل ولكل الصحفيين الوقوف على آخر المستجدات في كل أنحاء العالم عن طريق شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) وذلك بواسطة أجهزة الكمبيوتر المتوفرة في كل مكاتب الصحف الآن، وحتى بواسطة الهواتف المحمولة التي أصبحت أهم وسيلة يستخدمها الصحفي الآن والتي جعلت رؤساء تحرير كثير من الصحف يتابعون أعمالهم عن طريقها وهم خارج مكاتبهم.. ولكن يطل دائماً سؤال مهم وخطير وهو: هل كل ما جاءت به الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية يستحق الاحتفاء به أم أنها توظف النشر والمعلومات لخدمة أجندتها وأجنحة الجهات التي تمولها وترعاها سواء كانت دولاً أو أجهزة استخبارات؟ البحث عن إجابة لهذا السؤال ستحدد كيف تسوق جهات عديدة العالم إلى حيث تريد دون أن يدري أهله!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية