بائعات السمن البلدي … سراب الرزق المختبئ في قوارير بلاستيك
كنت أتوقع أن ترفض الحاجة “عائشة” التقاط صورة لها، لكنها لم تبد أي تبرماً كغيرها من نساء الريف، عندما صوب زميلي ” محمد كامل” عدية كاميرته نحوها، بل لم تعر الأمر أدني اهتمام، وواصلت مفاصلاتها بشأن سعر (قارورة) السمن البلدي مع السائق بدائرة الميرغنية “عوض الحامدابي” الذي نفحها ثمن (كريستالة) ثمينة من السمن البلدي.
ويبدو أن سمن السيدة العجوز ينطبق عليه المثل الشعبي القائل(تمر الفكي شايلو ومشتهي) من شدة البؤس والفقر البائن علي ملامحها هي و الطفلة التي كانت ترافقها وتقف إلى جوارها تحت الهجير الذي يصلي الصخر من شدة بأسه لم يكن له أثر علي ملامحها التي تكتسي بحزن نابع عن العوز الذي تعيش فيه.
(1)
لم تكن لدي المرأة أدنى رغبة في الحديث، فقد كانت منهمكة و(منهكة) بالبيع الذي ظلت تلح في طلبه حتى يكاد ينعدم الفرق بينه والتسول، حيث كانت الطفلة التي ترافق ترسل عبارات رقيقة تستجدي ها المسافرين على الشراء.
ولم يكن لديها استعداد حتى على قول اسمها، وعندما سألتها عنه، قالت بما يشبه التأفف “عائشة” وكأنه لم يلازمها طوال عمرها المديد.
طريقتها التي نطقت بها اسمها أكانت كافية لتجعلني أكف عن ملاحقتها بأسئلة أخرى، إلا أنني لم استطع كبح جماح فضولي الصحفي الذي زمجر كما تزمجر أحشاء الجائع، لكن أسئلتي ظلت تسبح في الفضاء الغارق في (هجير) الشمس الحارق.
(2)
وما أكده لنا كثيرون هنا، أن جل البائعات ظللن يمارسن مهنتهن منذ عشرات السنوات، وقد تمضي أسابيع دون أن يدخل أحد العابرين يده في جيبه لينفق من (شح) أمواله على (كوليسترول) بالغ التعقيد، لكنهن لا يعرفن أن مفاهيم الغذاء و الأكل قد اغيرت كثيراً، وأن الناس ما عادوا يعبئون بالسمن ولا (العسل)، بل أنهم بدأوا في مغادرة محطة (البتزا والهوت دوغ)، إلى زمن الغذاء والوجبات الصحية، لذلك ما زلن يأملن في رزق ينبت إلى جوار الأسفلت، ملوحات بـ(قوارير) السمن البلدي في وجوه المسافرين، الذين نادراً ما يتفضل أحدهم بالشراء، حتى ولو كان تحت بند (الصدقة) .
(3)
ثيابهن الرثة وتجاعيدهن العميقة، تحكي بوضوح عن معاناة يستحيل على من يعيشها أن يكتفي ببيع ( السمن) على قارعة الطريق، وبالتالي لا يكون لديه أي استعداد للحكي عن منتجه العصي على التسويق، والذاهب بقوة نحو (بوار عظيم)، لذلك ظلت “عائشة” ترمي إلى الإجابات وكأنها طعم تستدرجني به نحو هدفها الوحيد وهو بيع (قارورة سمن بلدي)، وقد نجحت.