الأماني العذبة
أتمنى رؤية أو رؤية غيري من شعب السودان للرئيس الحالي “عمر البشير” وهو يقود سيارته الخاصة بنفسه يرتدي بنطال أسود وقميص لبني نصف كم.. يترجَّل الرئيس السابق “عمر البشير” من سيارته يداعب عُمَّال البقالة.. ببضع كلمات.. ويطلب احتياجات أسرته ويدفع ثمن ذلك نقداً.. ويتوجه لمنزله وهو مطمئن البال.. هادئاً يلجأ إليه الناس لمساعدتهم في فض النزاعات وإغاثة المتضرِّرين من نوائب الدهر.. هل مثل هذه الأمنية عصيِّة التحقيق؟ أو مستحيلة؟ ليس بالضرورة المقصود هنا الرئيس “عمر البشير” في ذاته وشخصه، ولكن المعنى هنا.. هو تبادل السلطة وتعاقب الحكام بلا إراقة دماء.. منهم ومنا وكل الدماء، لأن شعبنا قد شبع في الموت وارتوت أرضه بالدماء الرخيصة التي دفعها في صراعه مع نفسه.. و”البشير” قد عبَّر أكثر من مرة عن رغبته الشخصية في التنحي عن السلطة، وقال (تعبت)، لكن متاعب الوطن حملته للإذعان لضرورات الواقع، مثلما الآن مقبل على تكليف جديد.. وترشيح أخير، وقد اقتضت مقتضيات التسويات الخارجية مع الغرب والعرب والتسويات الداخلية مع حاملي السلاح في قادم الأيام أن يبقى “البشير” في السلطة على الأقل لدورة أخيرة، لأن غيابه عن الساحة من شأنه إحداث شروخ عميقة في جسد الدولة.. وإنبات مقاومة للتطبيع مع الغرب ومحاولات ارتداد لما قبل عقلانية زمان “غندور”.
لكن مهما تمدَّدت أيام الحكم فإن لحظة المغادرة آتية لا ريب في ذلك.. بيد أن تداول الحكم وانتقاله من جيل لجيل يمثِّل وجهاً حضارياً لشعب شبع في الثورات والانقلابات وأهلكته الصراعات.. وحينما يغادر “البشير” السلطة وهو في كامل عافيته النفسية ولا محمولاً على آلة نصف حدباء مثل “حسني مبارك”.. ولا هالك بيد شعبه مثل “القذافي”.. ولا مطرود من تراب وطنه على طريقة “حسين هبري”.. ولا “منغستو هيلا مريام” فإن “البشير” يرتاح ضميره.. ويعيش عمراً جديداً بعد أن يرفع وعثاء التكليف عن نفسه.
في الأسبوع الماضي اجتمع خمسة رؤساء سابقين للولايات المتحدة هم: “جيمي كارتر” و”جورج بوش” و”بيل كلنتون” و”جورج بوش” الابن والأخير “بارك أوباما” من أجل استقطاب الدعم من أجل الشعب الأمريكي في ولايتَيْ تكساس وفلوريدا اللتين تعرَّضتا لأعاصير وعواصف نجمت عنها خسائر فادحة.. وقد رقص الرؤساء الخمسة في حفل موسيقي خصص عائده لضحايا الأعاصير ونجح الرؤساء في جمع مبلغ (31) مليون دولار، لضحايا النزاعات، واللافت للانتباه أن الرؤساء السابقين وهم يراقصون فتيات أمريكيات في مقتبل العمر نزعوا جميعاً ربطات العنق وتباينت مقدراتهم على الرقص بسبب تقدُّم العمر بكل من “كلنتون” و”بوش” الأب، ولو كان هؤلاء الشيوخ قد حكموا بلاداً مثل الشرق وأفريقيا لما غادروا السلطة حتى اليوم ولفرضت عليهم ضرورات الواقع البقاء في الكراسي حتى الموت أو الكهولة المقعدة.. ولأن حكام الولايات المتحدة مرضي عنهم من شعبهم فإنهم يعيشون حياتهم كمواطنين عاديين.. وفي بلادنا السودان يعيش المشير “محمد حسن سوار الذهب” حياته مستمتعاً بالترحال ما بين الأبيض مسقط رأسه والخرطوم التي تقلَّد فيها منصب الرئيس لمدة عام فقط.. ولكنه آثر مغادرة كرسي السلطة واحتفظ لنفسه بتاريخ واسم وبريق وتقدير لا يقل عن الرؤساء الذين عمَّروا في السلطة لعشرات السنين.