ثمن قليل
{ وقف الجنرال “عبد الرحيم محمد حسين” والي الخرطوم أمام مجلس شورى المؤتمر الوطني القومي في أول ظهور للجنرال بصفته رئيساً لحزب المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم بعد تعيينه في الموقع الرفيع.. نظر “عبد الرحيم” لمنصة رئاسة الجلسة وقال إن ولاية الخرطوم تعاني أوجاع عديدة وأمراض شتى لكنها تدفع كل يوم أثمان باهظة بنزوح أعداد كبيرة من مواطني الأطراف للخرطوم بحثاً عن لقمة العيش والأمان والاطمئنان وإن الميزانية المخصصة لمواطني الخرطوم يقتسمونها مع آخرين.. الشيء الذي يتطلب وقف نزوح الأطراف نحو الخرطوم العاصمة.
{ انفضت الجلسة وبقيت كلامات الفريق “عبد الرحيم” معلقة في فضاء قاعة الشهيد “الزبير”.. ذهبت إليه والرجل بشوش جداً ومتواضع حد الضعف ورقيق كالنسمة رغم مظهره الصارم قلت له سيدي “الوالي” النازحين الذين يخنقون الخرطوم ويحاصرونها من الأطراف لم تأتي بهم إلا الحروب ونوائب الصراعات وقد أصبحت مناطقهم مسارح للقتال على السلطة بين المركز والأطراف ولن يوقف زحف هؤلاء غلظة شرطة ولا عسف محليات.. ولكن إيقاف النزوح قرار أنت تملك القدرة على حث الرئيس اتخاذه.. قرار سهل جداً وصعب جداً.. قرار يوقف الحرب الدائرة في الأطراف ودفع ثمن ذلك.. وأنت أقرب للرئيس من حبل الوريد.. ضحك الجنرال “عبد الرحيم” وأخذ يداعب والي سنار “الضو الماحي”..
{ أمس (الجمعة)، حملتني دعوة من الأخ “إبراهيم كادقلي” الذي يشرِّف على حلبة للمصارعة السودانية في تخوم العاصمة (محلية أم بدة).. تجاوزت السيارة أحياء كرور وأم بدة ود البشير، إلى ميدان فسيح اتخذه اتحاد المصارعة حلبة لتفريج الهم وهزيمة الإحباط.. وزرع الأمل في النفوس سرت في النفس شجون ودغدغت مشاعري أحزان.. وأجيال من أبناء جبال النوبة يهرعون بالطبول والموسيقى لساحة المصارعة.. أطفال ولدوا هنا في أم درمان وصبيِّات نشأن في أحياء البؤس والشقاء والنكد لم تتغير العادات ولا التقاليد الراسخة لنوبة الجبال إيقاعات تمجِّد فرسان اللعبة.. ورقصات الفروسية.. وشباب دون الثلاثين (قلعوا البدل والقمصان) وجلس فريق أمام الآخر.. والحكم من المعاقين في أطرافهم.. يا لروعة المشهد.. جلس الجميع في الكراسي بعد أن دفعوا ثمن المشاهدة.. وثمن العودة معنوياً لبضع ساعات لأرض الأجداد ومهد الحاضرات تنافس رياضي بين فريقين.. يسقط الشاب منافسه على الأرض فينهض المهزوم مهنئاً الفائز.. تزغرد الحسان.. ويبشِّر الرجال وينثرون المال للفارس الذي يفوز بالنزال كما يفعل د.”إسماعيل عبد الله بدر” رئيس جمعية مدارس الأيتام التي تتربص بها وزارة د.”فرح مصطفى” لشيء في نفس المنافسين لتلك المدارس المتميِّزة.
{ كانت عشية (الجمعة)، بمثابة حزن عميق على الوطن الصغير جنوب كردفان وكل هذه الجموع الهادرة التي تتكوم في أطراف أم بدة قد فرضت عليها الهجرة الداخلية ومثلهم خرجوا لأرض الواسعة حتى إسرائيل وأستراليا القارة التي كانت منفى لعصابات الأوربيين فأصبحت وطناً للسودانيين الذين لفظتهم بلادهم جوراً وعسفاً.. وأبناء جبال النوبة بهذا الصبر الأيوبي تتكالب عليهم محن الساسة وصناع الموت ويخرج عليهم “عبد العزيز الحلو” بطرح بائس ورؤية عقيمة وينادي بحق تقرير المصير.. وهو في غربته لم يسأل يوماً هذا النسيج العريض من جبال النوبة الاجتماعية عن أحلامه وتطلعاته.. مثلما تتقاصر خطى الحكومة عن الوصول لهؤلاء الناس في الأحياء القريبة من القصر الجمهوري ماذا تريدون؟ وكيف تحلمون؟ وماذا تكسبون هنا؟.. أحلام أبناء جبال النوبة في العودة لأرضهم وتعميرها والرقص في فلواتها.. وهي الأمنيات عصية التحقيق، ولكن يبقى الأمل في أن تدفع حكومتنا ثمن السلام لمواطنيها مثلما دفعت ثمن رفع الحصار عن نفسها.