مسامرات
ريح (كير)
{ في زمان مضى كان الوجود في المشهد الفني عموماً عصياً على ذوي المواهب الحقيقية، وكان عليهم إثبات قدرتهم على الوجود والإتيان بالجديد وغير المألوف بالإضافة إلى مواهبهم الفطرية.. وذاك ما جعل أغاني أنتجت قبل أكثر من نصف قرن من الزمان لا يزال صداها يتردد، وذلك ما جعل أغاني “عثمان حسين” و”الكاشف” و”وردي” و”أبو داوو”د و”عثمان الشفيع” تمتلك ميزة الإبهار والوجود حتى الآن لأن إنتاجها لم يكن في مناخ ميسر وسهل، بل إن أولئك الكبار (نحتوا) في صخور الواقع وشح الإمكانات ومغالبة ندرة قنوات التواصل، ورغم ذلك استطاعوا إثبات قدراتهم الإبداعية وخلدهم سفر التاريخ.
{ ذات الظرف التاريخي الحرج يلقي بقفازه الآن في وجه من يملكون القدرات والمواهب التي تستطيع أن تحمل على كاهلها إخراجنا من عنق الأغنية (الجرثومية) التي أنشبت أظفارها في لحم ذائقتنا الحية ونكلت به.. وعبأته بـ(فيروساتها) القاتلة.
{ الآن كل من امتلك صوتاً يستطيع الصياح به وأورغ وعازف (مبروم الشعر) يمكن أن يصبح مطرباً بين عشية وضحاها.. ليست هناك مقومات موضوعية لصناعة النجم.. يكفي أن تعرف أين يقع منزل بعض من يدعون قدرتهم على نظم الشعر ويبيعونه بالدولار وتشتري منهم بعض أرجازهم تلك وستكون الألحان جاهزة وقتئذ لأنك لن تبذل جهداً في أن تجد لها لحناً مفهوماً.
{ هؤلاء ينافحون بشراسة مميتة عن كلمات الأغاني المبتذلة التي تمددت ذات ليل بهيم.. وتمدد معها صيتهم يملأون سماء الأغنية السودانية انحداراً فجاً.. ينشطون في نشر ما يمكن أن نسميها (منلوجات) باهتة الفكرة والمحتوى.. ولا يألون جهداً في المثابرة عليها لأنها بمثابة (لقمة عيشهم) المغموسة في لجة الركاكة والإسفاف ومنح المجتمع ريح (كير) ما يخرج من حناجرهم.
{ نعم من نحسبهم الآن امتداد لآخرين لا يفرقون عنهم في شيء الجسم هو هو.. الشكل هو هو.. اللون هو هو.. لكن ثمّة ما تغيّر في الدواخل.. الدواخل ليست هي هي.. غشاها الكثير من التغيير المضر، فتك بمنظومة تلك القيَم وأحالها خلال سنوات عدّة إلى مجرد رماد ذُر في بقايا قيَم.. أحيلت الآن إلى مثواها قبل الأخير.
} مسامرة أخيرة
وأنا اتيقنت بدري قبيل
بعد فرّجت فيِّ الليل
ونبّاه الدغش في العين
وأنهكت الوداد بالصد
وأشواقي الغبش بالبين
حليلك كنت زولي أنا
وملاذي الفي السمح والشين
تموت آهاتي لما تبق
متل جهر العديل والزين