بين رجلين
ينظر الكثيرون لبعض الرموز الثقافية والاجتماعية والسياسية بعين الرضا التي تقدس الأشياء وينظرون في أحايين أخرى بعين السخط التي تبدو المساويا وللسياسة أحكامها ومنطلقاتها في الحُكم على الأشياء.
“الطيب صالح” أديب متفق عليه، رفع من شأن الرواية السودانية وتجاوز بها المحلية إلى العالمية، ونال اعتراف الافرنج قبل العرب، وكتب “الطيب صالح” روايات عن حياة الإنسان في الريف بشمال السودان حيث نشأة “الطيب صالح” وتجسد (دومة ود حامد) و(موسم الهجرة للشمال) و(بندر شاه)، ثقافة الريف بشمال السودان وصراع الحداثة والهجرة والتمسك بالجذور، ووجدت كتابات “الطيب صالح” ذيوعاً وانتشاراً واسعاً وسط النخب والمثقفين وعامة الناس، ولكنه خسر الكثير عند ولوجه المعترك السياسي وكتابته الشهيرة من أين اتى هؤلاء؟ وتصدى للإنقاذ في بواكير أيامها اتساقاً مع مناخ إقليمي ودولي عام، وحملته المعارضة فوق أكتافها كرمز تستفيد من رمزيته وشهرته، ولكن “الطيب” خسر بهذا الموقف الكثير وفقد قاعدة المؤيدين لنظام الحكم، وتنقلب الأيام ويعود “الطيب صالح” للخرطوم، ويخسر مرة أخرى طيف من معجبيه في صف المعارضة، الذين نظروا إليه بعين السخط لمجرد لقائه “البشير”، وقولته الشهيرة عدتُ لوطني الذي لا بديل عنه.
“الطيب صالح” مثل “نجيب محفوظ” محدود المعارف بوطنه السودان، و”نجيب محفوظ” لم تتجاوز حدود معرفته بمصر مجتمع أزقة القاهرة القديمة، لم يكتب “نجيب محفوظ” عن الصعيد ولا حياة الساحل في الإسكندرية ولا مجتمع سيناء البدوي، ورغم ذلك حمله المصريون كرمز قومي وأديب عبر عنهم من خلال ثلاثية (قصر الشوق والسكرية وأولاد حارتنا)، وفي السودان لم يكتب “الطيب صالح” عن كنابي الجزيرة ولا حياة البدو في جبال البحر الأحمر ولا عن رقصة العاجكو عند البقارة، ولكنه عبر بصدق عن الريف الذي عاش طفولته فيه بشمال السودان.
ولكن روائي وأديب آخر أكثر عمقاً في مجتمع السودان، يخطو الآن نحو العالمية بكدحه ومثابرته وسعة إطلاعه بالسودان، ألا وهو “عبد العزيز بركة ساكن”، الذي في تقديري يفوق “الطيب صالح” علماً وثقافة بالسودان العريض الواسع، وحتى لا نطلق الأحكام جزافاً، دعنا نقرأ سعة إطلاع “بركة ساكن”..
كتب “عبد العزيز بركة ساكن” رواية (امرأة من كمبو كديس) حينما كان موظفاً بمدينة ود مدني، عاش حياة الكنابي وأحلامها وتطلعاتهم، وما حاق بهم من ظلم اجتماعي واقتصادي، ولما ذهب باتجاه شرق السودان، حيث المشاريع الزراعية والتمازج بين السودانيين والإثيوبيين في الحدود، كتب رواية (الجنقو مسامير الأرض)، وهي من أعمق الروايات والقصص العالمية، التي تجسد حياة الإنسان في تلك المنطقة، وعالم منسي وجسدت شخصية “محمد ود أمونة” واقعاً اجتماعياً لا يمكن إنكاره.
رغم أن بعض تعابيره جارحة وأفعاله صادمة وممارساته خادشة، لكن يبقى “ود أمونة” حقيقة في واقع المجتمع، ولكن الإسقاطات السياسية في أدب “عبد العزيز بركة” حاضرة مشهداً وحركة وتعبيراً حينما يزعم الرجل بأن المصارف الإسلامية هي واحدة من أسباب تفشي الفقر في البلاد، وإنها تحتكر تجارة السلع بحثاً عن الثراء على حساب القيم الاجتماعية، فإن “بركة” يعبر عن موقف سياسي أكثر من موقف أدبي مجرد عن موقفه الشخصي، لكن تبقى رواية الجنقو واحدة من أعظم الروايات وزاد من شيوعها وانتشارها منع السلطات الحكومية توزيعها عبر المنافذ المعلنة لتباع الرواية تحت الطاولات شأنها وروايته مسيح دارفور التي كتبها حينما عمل هناك وعاش رعب دارفور ومحنة الإقليم وبطبيعة الحال وقف “بركة” مع نفسه وعشيرته الذين هم جزء من الصراع.
ولما غادر الأديب البلاد مهاجراً للنمسا، وأقام هناك لم يكتب عن حانات فينا ولا عن جمال النساء في بلد تمازجت فيه السحنات وتماهت الثقافات وعاش الجميع تحت سقف وطن أوربي اتسع للأفارقة حينما ضاقت بهم بلدانهم الأصلية جسد كل ذلك في رواية الرجل الخراب التي تلتقي عن رواية موسم الهجرة للشمال في الشخصية المحورية هناك رجل اسمه “مصطفى سعيد”، وهنا رجل مسلم يصلي ويصوم رمضان هو نطفة من صعيد مصر ونطفة من منطقة دنقلا في شمال السودان حينما تزوج هناك وأنجب ابنته الوحيدة تصارعت في دواخله التقاليد والأعراف والأديان، وضرورات أن يعيش حياته في وطن بكامل القوانين يمنح ابنته حق معاشرة صديقها أمام بصره، ومأساة الرجل الخراب في أسرته الصغيرة دفعته للتفكير مراراً في العودة لوطنه ولكن كيف يعود لوطن مسكون بالأنظمة الشمولية التي تقمع التعبير وتدوس بأحذية العسكر على القصائد والنصوص الأدبية باعتبارها رجس من عمل الشيطان، وهذا الموقف السياسي والفكري لم يمنع الرجل الخراب من التعبير بقناعات المسلم الصوفي الموحد الذي على يقين تام وثقة في رحمة رب العباد بالعفو عن ما دون الشرك بالله، ويقول الرجل الخراب حينما سأل كيف يشرب الخمر وهو يصلي في المسجد الوحيد بالمدينة ويصوم شهر رمضان، أنا لم اقتل نفساً بغير حق، كما قتل حكام العالم العربي الآلاف من المعارضين ولم أسرق قوت الشعوب كما يسرقون ولم انهب بنكا كما ينهبوب أنا على يقين بأن رب العباد رؤوف ورحيم وحليم وكريم، ثقتي فيه أنه سيعفو عن الخمر التي أشربها يوم يبعثون،
ذلك هو “عبد العزيز بركة ساكن” في رحلته الطويلة في دروب الحياة ما بين دارفور في الغرب والجنقو في الشرق والكمبو في الوسط والرجل الخراب الذي يروي تفاصيل حياة المهاجرين في الغرب، ودروب الوصول الوعرة إلى هناك ومخاطر ركوب البحر ودروب الصحارى وقاطرات نقل الخنازير.
بدا لي “عبد العزيز بركة” أكثر عمقاً والتزاماً بقضايا الناس من “الطيب صالح” الذي تعددت مصادر معارفه بالغرب حينما عاش هناك ولكنه كسوداني كان أقرب إلى موظفي الحكومة الذين لم يتنقلوا بين فجاج الأرض الطيبة الواسعة.