رأي

مسامرات

محمد إبراهيم الحاج
أين اختفى أستاذ “معز”؟
* رغم أن حي الحارة الثالثة بمنطقة الجريف غرب، لا يبعد كثيراً عن المكان الذي نسكن فيه، إلا أن مشاغل الحياة ورهقها و(مكابداتها) فرضت أن لا نأتي إليه إلا لماماً وسريعاً.. أو ربما لأن تلك المنطقة بالذات لم يكن لدينا فيها أصدقاء كثيرون.. هاجر بعضهم و(فرضت) الحياة منطقها القاسي و(خربت) الذاكرة والتفاصيل والناس.. ولذا لم تقع أعيننا كثيراً على مدرسة الجريف غرب الابتدائية المزدوجة بنين – وهي المكان الذي درست فيه المرحلة الابتدائية.. ولم تتغشَ ذاكرتي كثير من ذكريات هذا المكان بطلابه وأساتذته و(ماما عشة) التي كانت تبيع الآيسكريم وتشتري ضحكاتنا بحنوها وصوتها المترع بالحنية.
*في هذه المدرسة التي دخلناها أطفالاً، كانت الحياة في أعيننا مثل سور عالٍ يتطلب قدراً كبيراً من المهارة للوقوف بجانبه قبل تخطيه.. الكتب والكراريس وعلب الهندسة و(المحبرة) كانت تنوء بها حقائبنا المدرسية وتجعل ظهور كثيرين تنحني رغم (حماسة البعض) وتحفزهم لاقتحام دروب الحياة المرهقة.
*ببسمته الوضاءة التي لا تفارق وجهه أبداً.. وصوته الواثق الهادئ (الصارم) في أوقات نادرة للغاية.. كان أستاذ “معز” يمثل (نفّاج) لمعظم طلاب المدرسة لاكتشاف الحياة.. وهو الذي ساهم بقدر كبير في أن يبصر كثيراً من أبناء جيلنا الحياة وتتفتح عيناه على كل الأشياء التي كان يجعلنا نحبها قبل أن نفعلها.
* لا نذكر أنه (ضرب) تلميذاً يوماً ما.. أو (نهر) أحدنا.. كان الجميع يعتبرونه بمثابة أخ كبير لهم.. يمنحهم الاطمئنان وينقب في دواخل الكثيرين منا عن مواهبه وعن ما يتميز به.
*كان أستاذ “معز” مسؤولاً عن (الجمعية الأدبية) بالمدرسة وعن بقية المناشط بالإضافة إلى وظيفته الأساسية كأستاذ لمادة اللغة العربية.. ولكنه كان يدرك أن دوره التربوي يتعدى وقوفه في الفصل وشرح الدرس ومن ثم المغادرة إلى المنازل.
* اختار أستاذ “معز” يوم (الخميس).. من كل أسبوع ليكون يوماً للجمعية الأدبية ورغم أن اليوم الدراسي كان ينتهي عند الواحدة أو الثانية ظهراً.. إلا أننا كنا ننتظر حتى الخامسة مساءً موعد بداية (الجمعية الأدبية) ظهراً.. إلا أن فرحتنا بيوم الجمعية كان يجعلنا نمكث في المدرسة لا نفارقها نحضر للمواد الأدبية والفنية التي سوف نقدمها.
*لا زلت أذكر ذلك اليوم جيداً الذي كانت فيه الحصة (رياضة) صباحية.. وكانت عن رياضة (القفز على الحبل).. ولأنه كان يعي دوره كمعلم مسؤول عن تلامذته.. كان أستاذ (معز) أول من قفز ولكن عند هبوطه من قفزته انزلقت رجله وانكسرت وخرجت معه كل المدرسة للمستشفى.. وكان أن حزن عليه كل طلاب المدرسة وصام كثيرون عن الأكل لعدة أيام.. ولا يزال ربما أثر هذا الكسر ظاهراً في مشيته.
*في الجمعية الأدبية عرفنا “شكسبير” ومثّلنا مسرحياته (تاجر البندقية) و(روميو وجوليت).. تفتحت أعيننا على القصائد الثورية لـ”درويش”.. وأرخينا أسماعنا لصوت “فيروز” وهي تغني (جارة الوادي).. وحفظنا الأطلال لـ”إبراهيم ناجي” وتطوفنا في سيرة “المتنبئ” و”أبو تمام” و”أبونواس”.. وقرأنا لـ”أحمد شوقي” و”حافظ إبراهيم” و”علي أحمد باكثير” و”محمد الماغوط”.. وفي كل هذا كان صوت ورعاية أستاذ “معز” هي القاسم المشترك الأكبر بينهم.
* لقد علّمنا أستاذ “معز” ومن معه وقتها من الأساتذة أن لا ننظر إلى وجه من هو أكبر منا سناً.. علمنا الرياضة والقراءة وآداب الحديث.. والإشفاق على الصغير وتوقير الكبير وبر الوالدين ورعاية حقوق الزملاء والمباشرة ومواجهة من يخطئون في حقك.. أدركنا وقتها بفطرتنا المتخلقة أن المعلم هو أعظم رجال الأرض.. بصلاحه تصلح  المجتمعات.. وبفشله تركع الأمم.
*قد يكون أستاذ “معز” الآن معلماً أو قد يكون ترك المهنة.. فأنا حقيقة مقصر جداً ولا أعلم عنه شيئاً.
* أبحث الآن عن أستاذ “معز” بسمته وهيئته.. ولكن لا أعرف عنه شيئاً.
* أبحث عن (صفات) أستاذ “معز” في كثير من المدارس الخاصة والحكومية والمعاهد.. ولكنني لا أجدها.
* هل منكم من رأى أستاذ “معز” في بعض مدارسنا؟
*أين اختفى أستاذ “معز”؟

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية